سالم بركات العرياني
أربعة كتب من محمد عابد الجابري وأربعة أخرى من جورج طرابيشي وكان من شأن هاتين المجموعتين أن تخلقا واحداً من أكثر السجالات جدية وعمقاً في تاريخ الفكر العربي عند نهايات القرن العشرين. وكان من شأن ذلك السجال لو تم أن يبعث روحاً في ما نسميه عادة ( النهضة الثانية)، فالمفكران الراحلان اليوم، كانا ولا يزالان، وكل في مجاله، قمة من قمم الفكر العربي، ولكل منهما جمهوره المندفع إلى قراءة كتبه، ما إن تصدر في بيروت غالباً. كتب الباحث إبراهيم العريس تحت عنوان ( كيف أجهض الجابري أهم سجال في الراهن الثقافي العربي) وذلك في موقع الإندبندنت العربية قائلاً ( يومها لم يساجل الجابري طرابيشي مع أن أسلحة عديدة كانت متوفرة له، فهو من ناحية أقرب إلى القراء العرب المسلمين وطرابيشي غير مسلم، ومن ناحية أخرى يدين بقومية عربية كانت لا تزال رائجة فيما كان طرابيشي الآتي من نفس الجذور قد أضحى كوزموبوليتيا يدعو إلى عقلانية تجريبية لا تلقى رواجاً في الساحة العربية. وبشكل عام كان الجابري شعبوياً بينما كان طرابيشي نخبوياً. وإذا تنبهنا إلى دلالة اسميهما يمكننا أن نستغرب نكوص الجابري عن خوض سجال كان يمكنه أن يربحه أما لماذا لم يفعل، فهو قالها في حوار أخير ونشره في كتابه ( حوارات النهضة الثانية) أنا لا أساجل غير مسلم في شؤون الإسلام.
حسمها الجابري يومها وسكت قبل أن يسكت إلى الأبد مأسوفاً عليه. أما بالنسبة إلى السوري جورج طرابيشي الذي كان قد وسع مشروع رده على زميله المغربي إلى ثمانية أجزاء، فإنه ما إن توفي الجابري حتى قال لنا إنه سيوقف المشروع عند جزئه الرابع لأنه لا يمكنه أن يساجل من لم يعد معنا في هذا العالم وهكذا انصرف طرابيشي عن مشروعه، وهو لم يكن قادراً على أي حال على استكماله. إذا ما لبث أن رحل بعد فترة قصيرة ما حرم الثقافة العربية من اثنين من ألمع رجالاتها على ما بين هذين الاثنين من تفاوت في النظر وليس في القيمة طبعاً.
o مهما يكن، وحتى لو أن الأجزاء الأربعة التي صدرت من مجموعة طرابيشي تبدو متفوقة ليس فقط في بعدها السجالي والتصويبي تجاه نصوص الجابري بل كذلك في تجديديتها العلمية إذا حسبنا أن نقرأها اليوم ونعيد قراءتها بأسلوب كاتبها السلس ومعرفته العلمية الدقيقة وتبحره في سبر التاريخ بشكل استثنائي، بصرف النظر حتى عما يتعلق بالجانب الذي يكرسه هنا للسجال مع الجابري سنكتشف جمله من دراسات استثنائية حول مواضيع تتراوح بين إخوان الصفا والفلاحة النبطية بين ( سبات العقل في الإسلام) و ( استقالته) وبين الأفلاطونية المشرقية وتلك المغربية. وما إلى ذلك من قضايا استثارتها قراءة طرابيشي للجابري. علينا ألا نغفل هنا عن انتشار كتب هذا الأخير في أوساط المثقفين العرب انتشاراً يمكن القول، إنه لم تسبقه إليه أي كتب فكرية عربية أخرى).