سهام القحطاني
لماذا خرج المثقف من معادلات التأثير الجماهيري في زمن ثقافة التفاهة؟
قد يقول قائل لأن في زمن ثقافة التفاهة لا عزاء فيه للمثقفين؛ باعتبار المثقف الوجه النقيض لفاعل ثقافة التفاهة والدلالات التي تروّج له وأن استدعاءات ثقافة التفاهة لا تتوافق مع قيم المثقف، وقد يذهب آخر إلى القول إن المثقف هو الذي أسهم بإخراج نفسه من معادلات التأثير الجماهيري عندما اختار أن يستعير رقصة الطاووس ليدخل منافسة كان هو الخاسر الأكبر فيها!، وفي كلا القولين تفاصيل لعل الشيطان يكمن في بعضها.
ولتكن البداية في تحليل القولين السابقين من «السلطة الجماهيرية» هذه السلطة التي تأجج نشاطها مع بدايات تاريخ الثورة الاتصالية وتوطين مواقع التواصل الاجتماعية وعولمة الفكر والذوق العالميين لشعوب العالم التي أسست ثقافة التفاهة وأصبحت قائدة لها تحت عنوان «هذا ما يريده الجمهور» كونه المتحكم الكمي في علو أو انخفاض «السلعة بصيغها المختلفة وتوصيفاتها ودلالاتها».
ظهرت ثيمة «سلطة الجماهير» مع الثورة الصناعية ونشأة الاشتراكية، باعتبار أن المجموع في صياغته الكمية هو المتحكم في الإنتاج وهذا التحكم هو الذي خلق سلطة ذلك المجموع وبالتالي أصبح ذوق وثقافة تلك السلطة الجديدة هي المتحكمة على الثقافة العامة مما ازاحت «السلطة النخبوية» وأصبحت في ذاتها «رأيا عاما». هذا الرأي العام الذي يتمثل من خلال سلطة الجماهير والذي وصفه «مكيافيللي» «بأن صوت الشعب هو صوت الله»، وبالتالي التحكم في نوع الثقافة العامة.
وانعكس ذلك التحكم على الأدب والفن وأسلوب الحياة، وانتقلت البطولات سواء في الأدب أو السينما من طبقة النبلاء إلى طبقة العمال والفلاحين باعتبارهم المتحكمين الجدد في عجلة الإنتاج وقيادة الاقتصاد.
والأكثر من ذلك ظهرت نظرية «موت المؤلف» مقابل إعلاء سلطة المتلقي وتحكمه في النص كنظام لغوي بحت بعيدا عن صاحبه، وكانت هذه النظرية مؤشرا قويا لانتهاء زمن المثقف في توصيفاته المختلفة.
وهذا المسار الدرامي لسقوط سلطة النخبة بما فيها المثقف يعني «إلغاء لقيمة الكمال والمثالية» في ماهيتها المعنوية التي كانت ضمن أدبيات السلطة النخبوية وغياب أي معايير مسكوكة في الأدب والفن الجماهيريين وما دعم غياب المعايير المسكوكة لقيمة الجمال والمثالية في أدنى مستواها أو حتى اختفائها شيوع النظريات التحررية في جميع المجالات الدينية والثقافية والاجتماعية، بتوصيفات مختلفة مثل العلمانية والليبرالية والوجودية التي كانت تدعم حرية الفرد والجماعة على كافة المستويات، الفكرية والسلوكية والمنفلتة أحيانا من أي ضوابط أخلاقية أو دينية أو اجتماعية أو فكرية إلا في ضوء ما يحدده القانون.
فعُلّقت جميع التجاوزات التي شوهت صورة الثقافة والفن في إطارهما المثالي على «شماعة الحرية والتحرر»؛ وأضيف إلى إلغاء شرط قيمة المثالية إلغاء شرط «الصح والخطأ» فكما تم هدم المثالية بمعول الحرية والتحرر كذلك تم هدم معياري الصح والخطأ بمعول النسبية؛ فالصح والخطأ دلالتهما مرتبطة بحكم الضرر لا التحريم أو الإثم، وإن اشتركا -إلغاء المثالية ومعياري الصح والخطأ- في حاصل أن «فوضى القول» هو حق للجميع.
إن تحوّل المجتمعات وخاصة في الغرب إلى مجتمعات صناعية سحب من الأفكار قيمها وحوّلها إلى «سلع» تتنافس في فضاء واسع من التسويق وكلما زاد بذخ الضوء والصوت للسلعة زاد سعرها، وبذلك أصبحت دلالات القيمة محصورة بالمادية بالمكسب والخسارة بالرضا والقبول، أي خصائص النظام الإعلاني الذي سيطر على ذوق سلطة الجماهير وانتج ثقافة التفاهة.
ولو أردنا ترتيب تأثير المثقف داخل الدائرة السابقة فسنجد أن لا مكان له داخل تلك الدائرة؛ لأن وظيفته كمؤثر تمّ إلغاؤها سواء كممثل للمثالية أو لفقه الصح والخطأ.. الوظيفتان اللتان سقطتا بسلطة الرأي العام وبرعاية نظرية موت المثقف.
والحقيقة أن المجتمعات العربية كانت محصّنة عن ذلك التشويه الذي طال الثقافة والفن في أمريكا والغرب بتأثير هيمنة سلطة الجماهير وتراجع سلطة النخبة، وسبب تلك الحصانة بعدها عن مصدر التأثير، ولهيمنة السلطة الدينية وقوة النظام الأخلاقي والأسري وسيطرة النخبة الثقافية على الثقافة العامة، إضافة إلى تحكم العادات والتقليدية في أساليب تفكير وسلوك الفرد والجماعة تلك العادات والتقاليد التي كانت بمثابة قوانين غير مكتوبة لا يستطيع الفرد تجاوزها.
لكن مع دخول المجتمعات العربية نطاق العولمة وثورة مواقع التواصل الاجتماعية وانفتاح الأجيال على المجتمعات الغربية ومعتقداتهم انكسرت دائرة الحصانة.
هذا الانفتاح العربي على كل ما هو أمريكي وغربي وظهور نسق ثقافي جديد بدأت الأجيال العربية بالزحف إليه أربك المثقف العربي وهو يرى بأم عينيه أن بساط القيمة والتأثير يُسحب من تحت قدميه، وانقسم المثقفون أمام هذه الحالة إلى قسمين قسم انسحب من المشهد ليحافظ على صورته رافضا لبس المهرج أو النجومية، حالهم كما قال آلان دونو» تحت رعاية التفاهة: يشنق الشعراء أنفسهم في زوايا شققهم الفوضوية».
أما القسم الآخر فحاول أن يدخل عالم ثقافة التفاهة ليصبح نجما من نجومها لكنه لم يستطع المنافسة رغم تنازله عن خصوصيته الفكرية والأسلوبية ،متناسيا أن لكل عصر «مشاهيره ونجومه وطاقم المؤثرين فيه» ورغم تلك التنازلات إلا أنه خسر الرهان أمام مشاهير ثقافة التفاهة وأكّد على واقع موت المثقف أو «هكذا أظن».