الثقافية - محمد هليل الرويلي:
كنا قد نشرنا في (لعدد 720)، حوارًا مع الناقد الدكتور «محمد علي عطا» في زاوية (ذاكرة الكتب) التي يستعرض فيها الكتاب، والمثقفين والمثقفات، تجاربهم القرائية الأولى وما يعقبها من مطالعات وقراءات متنوعة إضافة لتجربة التأليف ونشر الكتب والإصدارات.
في هذا العدد نواصل الحديث مع الناقد د. محمد عطا، الذي استهل بدوره الحوار مشيرًا لتجربة - البدايات - المنقضية، والعناوين التي حملت الكتب والمجلات قائـلًا: بعد ذلك، أحسست بأني قد كبرت على مجلة «سمير»، وتعلقت بمجلة «العربي» الكويتية، فحرصت عليها شهريًّا لسنواتٍ، نظرًا لمناسبة ثمنها، وتنوع موادها، وأذكر حزني إبَّان غزو الكويت وأنا أذهب لعم «فوزي» كل شهر لأشتريها، فيخبرني أنها لم تأت، ولما طال ذلك ويئست من عودتها انتقلت لمجلة «الشباب» التي لم تسدّ مسدّها في نفسي وذائقتي، وكم فرحت بعودة مجلة (العربي) مرة أخرى، رغم أن ثمنها زاد عن ذي قبل، احتفظ منها حتى الآن بأعداد كثيرة. صرت نهمًا وكلما رأيت كتابًا عند صديق لم أتمالك نفسي واطلعت عليه، ويصدق علي قول الشاعر:
وَما هُوَ إِلّا أَن أَراها فُجاءَةً
فَـأبـهَـتُ لا عُرفٌ لديَّ ولا نُكرُ
كان لديّ صديق أيضًا قرأت عنده بعضًا من كتب مكتبة أخته، أتذكر منها: رواية «هاملت» لشكسبير وكتاب «الخالدون مئة أعظمهم محمد» لمايكل هارت وترجمة أنيس منصور، وعند آخر قرأت المجموعة قصصية «مملكة الأرانب» لبَلَديِّي القاص محمد خليل -حفظه الله- ومن الكتب التي أثَّرت فيَّ أيضًا كتب المناهج الأزهرية فقد كنت أحرص على طلبها من جيراني نهاية كل عام، وأطالعها طوال الصيف، سواء كتب النحو والصرف والمطالعة والفقه، وخاصة كتاب الميزان في العروض والذي كان سببًا في انطلاق ربة الشعر عندي.
وتابع: في أول رحلة لي للقاهرة من أجل الالتحاق بالجامعة عام (1994م) حضرت صلاة الجمعة في مسجد عمرو بن العاص، وكان الخطيب د. عبدالصبور شاهين رحمه الله تعالى، الذي أبهرتني لغته وإلقاؤه، وأذكر صوته الجهوري ينشد قول عنترة مركِّزًا على مواضع نبر الكلمات:
لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ
بَل فَاسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
لما خرجت منه تجولت في السوق المحيط واقتنيت مجموعة رسائل صغيرة من حجم الجيب مغلَّفة مع بعضها لأنور الجندي، شدني إليها احتواؤها على رسائل في الأدب ومناهجه وفي نقد رجال الأدب، إلى جانب رخص ثمنها مقارنة بحجمها الكبير. وكان يُعرض بجانبه كتاب عن معركة نصر حامد أبو زيد، وكانت المعركة وقتها على أشدها. ثم عرفت طريق (معرض القاهرة الدولي للكتاب)، وأذكر أنّني شتريت منه ثلاثة أجزاء من كتاب «الأوراق» لأبي بكر الصولي و»شعر الرثاء في العصر العباسي» وكتابًا عن أبي نواس.
ومن الطرائف أتذكر، أنه في أحد الأيام سمعت أن مخازن مكتبة «كلية دار العلوم» ستفتح أبوابها للطلاب، للتخلص من التالف من كتبها، فتربصت ببابها، فلما فُتح هجمت فيمن هجم، واقتنصت بصعوبة عددًا من الكتب أكثرها كتب أدبية أتذكر منها: كتاب «قدامة بن جعفر والنقد الأدبي» لبدوي طبانة و»معروف الرصافي دراسة أدبية لشاعر العراق وبيئته السياسية والاجتماعية» لبدوي طبانة أيضًا، وعليه إهداؤه بخطه الدكتور أحمد الشايب، وكتابًا في شرح بعض الأحاديث لمحمود الزفزاف، وديوان هاشم الرفاعي.
* مكتبة عبد الفتاح الحلو
ومن الأماكن التي أثَّرت فيَّ وأثرتني بعد التخرج في الجامعة، بل أعدها الجامعة الثانية التي تخرجت فيها، مكتبة «د.عبدالفتاح الحلو» الضخمة؛ حيث قُدّر لي أن أعمل بين كتبها أعوامًا عديدة (1998-2005)، وأن أعمل في المطولات التي أثرت فيَّ وعشت معها ومع مؤلفيها وأساليبهم أعوامًا طويلة بسبب مشاركتي في تحقيقها ونسخ مخطوطاتها ومقابلتها وتوثيق نصوصها، والتعريف بغريب ألفاظها وبأعلامها وبالأماكن المذكورة فيها، وعمل الفهارس المتنوعة لها، وما زالت تعليقاتي بخطي مثبتة في هوامش بعض كتب مكتبة الحلو رحمه الله تعالى، ومن الكتب التي عملت بها كتاب: «البداية والنهاية» لابن كثير، وشاركت أيضًا في تحقيق كتاب «تفسير الطبري» و»الدر المنثور في التفسير بالمأثور» للسيوطي و»التمهيد» و»الاستذكار» لابن عبد البر القرطبي و»القبس في شرح موطأ مالك بن أنس» لابن العربي المالكي. العمل في هذه الكتب فتح أفقي على المكتبة العربية جميعها؛ فقهها وحديثها وأدبها ونحوها وتراجمها وتاريخها وجغرافيتها وفلسفتها...إلخ. فاشتغلت بها وشُغلت بها، وتكوَّنتُ من خلالها، وصدق إبراهيم اليازجي حين قال:
وأفضلُ مَا اشتغَلْتُ به كتابٌ
جليلٌ نفعُهُ حُلْوُ المَذَاقِ
* كنوز في متناول اليد
وأضاف: كنت أتابع إصدارات «مكتبة الأسرة» عظيمة النفع على رخص سعرها، فاقتنيت منها مختارات الدواوين مثل مختارات من ديوان البارودي، ومختارات من ديوان أحمد شوقي، وأجمل عشرين قصيدة حب لفاروق شوشة، وفضائل مصر لابن زولاق، وسلاسل الروايات المترجمة، وغيرها الكثير من الكتب المتنوعة النافعة المفيدة المؤثرة، وأعتقد أن فضل هذه السلسلة على المثقف المصري كبير جدًّا، لا يُنكر.
أيضًا كنت أتابع بشغفٍ سلسلة الذخائر التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية، وكانت تعيد طباعة ذخائر الكتب التراثية بسعر رمزي، وتقريبًا لم يفتني من أعدادها إلا القليل؛ لأن أصدقائي من محبي القراءة شكلوا فريقًا مقسمًا على بائعي الصحف في أماكن مختلفة لنقتنصها فور نزولها، قبل أن تنفد بسبب الإقبال الكبير عليها، فواحد مختص ببائع الصحف في ميدان التحرير، وواحد مختص ببائع الصحف في العتبة، وواحد مختص ببائع الصحف في ميدان الجيزة، وواحد مختص ببائع الصحف في أرض اللواء، وهكذا.
* كنوز على الرصيف
وزاد: لي مع كتب الرصيف حكايات، فكتاب «دراسة في مصادر الأدب» للطاهر أحمد مكي رحمه الله، وكتاب «شوقي شاعر العصر الحديث» لشوقي ضيف اقتنيتهما من بائع كتب مستعملة على أرصفة ميدان الجيزة، و»كتاب الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد»، لكمال الدين الأدفوي (ت748هـ) اقتنيته من بائع كتب مستعملة في مخرج مترو محطة البحوث بالدقي، وهكذا.
هذه هي - حسبما تسع الذاكرة - رحلة العشق، مع الكتب والمكتبات، والمجلات؛ التي أسهمت في التكوين العلمي، وأطلقت القلم، وكما قيل «ما الأسد إلا عدة خراف مهضومة»، وكذلك ما المثقف إلا عدة كتب مهضومة، وصدق المتنبي:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سَرْجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ
* جريانُ القلمِ
أول مقال كتبته كان بتكليف من الدكتورة أمان، نشرته بعد ذلك بسنوات طويلة في «النبأ» الكويتية، كان هذا أول شعور بالقدرة على الكتابة. وكان أول مرة يكتب اسمي على كتابٍ كان كتاب للشيخ محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله تعالى بعنوان «مجموعة دروس وفتاوى الحرم المكي».
وكانت أول كتابة لي هي عدة أبحاث في السنة التمهيدية (قسم الأدب)، ما زلت احتفظ حتى الآن بمسودة بحث بعنوان «المثقب العبدي حياته وشعره»، وتلاه رسالة الماجستير بعنوان «حماسة النَّيْرماني تحقيقًا ودراسة».
واستعاد الدكتور عطا قصة فوزه في مسابقة صحيفة (الشرق الأوسط) والظروف التي عاشها وهو يتابع النتيجة عام 2005 قائلًا: كتبته لمسابقة شهرية (أحسن مقال) تقيمه صحيفة الشرق الأوسط السعودية، بعنوان «الغناء العربي إلى أين؟».. انتظرت شهورًا مواظبًا اقتناء الصحيفة ثم يئستُ، وذات يومٍ اشتريت الصحيفة ونسيتُ أمر مقالي وظننت أنه لم ينلْ حظًّا في هذه المسابقة، فإذ به الفائز! وصلتني (100دولار) قيمة الجائزة، بشيك على بنك «بركليز»، وكتب في تحكيمه والثناء عليه كل من: الروائي السوداني الطيب صالح رحمه الله، والناقد المصري رجاء النقاش رحمه الله، والصحفية هاديا سعيد. كانت فرحتي بالفوز والثناء من هذه الشخصيات كبيرةً جدًّا، وكنت أقفز من الفرح في شوارع حي الريان بالرياض، وكان هذا الفوز وهذه الشخصيات سببًا في إعطاء الثقة والجرأة، وله بعد الله الفضل فيما تلا من تأليفٍ ونشرٍ.
وفي معرض حديثه حول تجربته في تأليف الكتب والإصدارات وخصوصًا الكتاب الأول وما عقبه بعد ذلك من المؤلفات قال: أول كتاب نشرته «انتصار ابن خالويه لفصيح ثعلب» تحقيقًا ودراسةً، نشره معهد المخطوطات بالقاهرة، عام 2018م، وتلاه كتاب «خطأ فصيح ثعلب» لأبي إسحاق الزجاج، تحقيقًا ودراسةً و «وصف ديك لأبي القاسم الهُبيري وشرح غريبه لابن خالويه» ثم كتاب «منهج تحقيق نسبة النص النثري»، ثم توالت الكتب، أسأل الله النفع والقبول والدوام.
* كتب أوصى بها العلماء
وفي الختام وجه الناقد الدكتور محمد عطا نصيحة لكل من أراد أن يصبح مثقفًا موسعيًا مشيرًا لعناوين الكتب المعينة في تحقيق ذلك فقال: إني لأنصح من أراد أن يثقِّف نفسه ثقافة عربية موسوعية أن يبدأ –إن كان عالي الهمة- بهذه الكتب الثلاثة: «نهاية الأرب» للنويري، و»صبح الأعشى» للقلقشندي، و»كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» لحاجي خليفة، فهي كتب ثقافة عامة شاملة لكل الفنون تقريبًا، ومن أحاط بما فيها فقد أحاط بموضوعات تراث أمتنا المتنوع وبرجاله وكتبه خلال ألف عامٍ.
ثم يمرُّ بالكتب التي أوصى بها العلماء قديمًا وهي: كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ و»أدب الكاتب» لابن قتيبة، و»الكامل» للمبرد و»الأمالي» للقالي، يتبعهم بما أوصى به العلماء حديثًا: «الوسيلة الأدبية» لحسين المرصفي و»رسالة في الطريق إلى ثقافتنا»، و»أباطيل وأسمار» كلاهما لمحمود شاكر و»الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» لمحمد البهي، و»الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» للدكتور محمد حسين. فمن أخذ بهذا البرنامج صار مؤهلا لأن ينفتح على الثقافات كما يشاء دون أن يُغتال من جذوره.
أُولَئكَ آبَائي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِم
إذَا جمَّعَتنَا يا جَريرُ المجَامعُ