«بمناسبة هذه الأيام الخاصة من شهر رمضان، أود والسيدة فورد أن نتقدم بأحرّ تحياتنا إلى جميع الأمريكيين من ذوي العقيدة الإسلامية. منذ ما يقرب من مائتي عام، استمدت أمتنا قوتها من تنوع شعبها ومعتقداتهم. تم تعزيز هذه القوة بشكل كبير من خلال تراثكم الديني».
كان هذا مقطعًا من رسالة تهنئة رئاسية بشهر رمضان وعيد الفطر، تلك التي تعد أول تهنئة من جهة رسمية للمسلمين الأمريكيين، حيث جاءت من مؤسسة الرئاسة ممثلة بالرئيس الأمريكي الثامن والثلاثين (جيرالد فورد)، والتي أذيعت في السابع عشر من شهر أكتوبر للعام 1974م. حيث حرص هذا الرئيس على تقديم التهنئة بصفة دورية طوال مدة رئاسته.
والمتأمل في النص الكامل لرسالة التهنئة، يلاحظ تركيز النص على كون المسلمين جزء من أمة أمريكية أكبر، وأن هذه القيم الخاصة بهم تعد جزءًا رافدًا لتنوع ثقافي يساهم في قوة الأمة الأمريكية وتعدديتها، ويمكن استلهامه في بناء قوي للعطاء والإنتاج، وهي جزء من الفكرة الأمريكية ككل، والقائمة على استلهام كافة الحضارات والخلفيات الثقافية وتوظيفها لبناء دولة أقوى.
وأيًا ما يكن، فقد كانت تهنئة متأخرة نسبة إلى تاريخ وجود المسلمين على الأراضي الأمريكية، وضمن إطار الدولة الحديثة، ولكن كما يقال: أن تجيء متأخرًا خير من ألا تتمكن من المجيء.
لا دين للدولة في الدستور الأمريكي، ولكن جدول المناسبات ذات العطلات، والمستحقة للإجازات الرسمية في الدولة يحتوي العديد من المناسبات الدينية، وإن كان الأساس في المناسبات الرسمية الأمريكية أنها وطنية لا ترتبط بدين أو طائفة، مثل عيد الشكر، وعيد الاستقلال، وعيد العمال، وذكرى (مارتن لوثر كينغ)، وغيرها من مناسبات وطنية بحتة لا مرجعية دينية لها، ويشترك فيها الأمريكيون بكافة طوائفهم وأديانهم ومرجعياتهم الثقافية في احترامها والاحتفاء بها، وذلك كمواطنين يسكنون وطنًا واحدًا ذا مصير مشترك. ولكن من الثابت أيضًا على الجهة المقابلة، أن المناسبات المسيحية واليهودية تأتي على رأس قائمة الاحتفالات على امتداد الوطن الأمريكي، فالمناسبات المسيحية -على سبيل المثال- عطلات رسمية.
فعيد الميلاد (الكريسماس) المسيحي، ومناسبة رأس السنة، إجازتان للتعليم، ولوظائف الدولة ومعظم قطاع التجارة والأعمال، وهي الفترة من التقويم السنوي المتعارف عليها بـ(موسم العطلات)، وهي المسوق لها ثقافيًا وإعلاميًا بصورة مكثفة، ومظاهر الاحتفال بها واضحة حتى في أصغر القرى على امتداد أراضي الدولة الأمريكية، وذلك من لافتات التهنئة، ومظاهر الزينة، وباقات الأزهار والهدايا المجانية، وكذلك مواسم التخفيضات الكبرى وغير ذلك من أساليب العالم الرأسمالي في استثمار المناسبات.
كما أن عيد (حانوكا) أو عيد الأنوار اليهودي، يستطيع اليهود فيه الاحتفال، ولا يخفى على المار على المدن الأمريكية الكبرى مظاهر الاحتفال به، كما يحصل فيه الطلاب من أتباع الديانة على فترة خاصة للاحتفال به.
وبالنظر إلى تعداد المسلمين على امتداد الأراضي الأمريكية، فإنه لا يمكن إعطاء معلومات تقوم على إحصائيات دقيقة عن تعدادهم، أو نمو وجودهم التاريخي، حيث إن المسوحات وتسجيل البيانات الوطنية تحرم إجراء مسح رسمي يسأل عن الانتماء الديني، أو الإثنيات العرقية أو الثقافية، حيث لا يوجد خانة في أي مستند رسمي حكومي عن الدين، فهذا من الأمور المحرمة في الثقافة الأمريكية، إذ تعد من حرمة الفرد وخصوصيته التي لا يجوز المساس بها، ولكن الأرقام التقريبية التي تقوم بها مراكز الأبحاث والدراسات، تشير إلى وجود حوالي 4 مليون مسلم حالياً، وذلك على امتداد أراضي الدولة كمواطنين أمريكيين، وهي نسبة تزيد ولا تنقص بطبيعة الحال، كما يتوقع أن يصل التعداد إلى 8 ملايين بحلول عام 2050م، وذلك بحسب إحصاءات مراكز الأبحاث المستقلة كمركز (بيو)، ولكن رغم هذا، فإن نسبتهم إلى إجمالي السكان لا يتجاوز 1 % وهي نسبة أقل بكثير جدًا من مسلمي أوروبا ودولها الكبرى كبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
ولكن رغم التعداد القليل نسبيًا، فإن هذه المجموعة تتمتع بمستوى تعليم ممتاز، ودخل مالي يصنف بأنه دخل جيد إلى ممتاز، فهم بذلك من الطبقة ذات الحال المتمكن اقتصاديًا من بين شرائح الأمريكيين، وذلك بخلاف مسلمي دول أوروبا، والذين يعاني جزء كبير منهم وضعًا اقتصاديًا صعبًا، ومستوى تعليميًا متدنيًا، وذلك كمسلمي بريطانيا - على سبيل المثال- والذين يعاني جزء ليس بالهين منهم من فقر مدقع، تزايد أكثر فأكثر بعد الجائحة العالمية الأخيرة (كورونا) كما تشير التقارير والدراسات.
وبهذه النسبة التي تبدو قليلة، إلا إن الإسلام يعد الديانة الثالثة في الولايات المتحدة، وذلك بعد المسيحية ثم اليهودية، فهم بذلك أكثر من أتباع الديانة (الهندوسية) على سبيل المثال ل، وذلك اعتمادًا على تقارير مراكز الدارسات المستقلة، مثل مركز (بيو) للأبحاث.
وهنا يبرز بصورة دائمة سؤال وصراع الانتماء والهوية، حيث إن عددًا كبيرًا منهم لم يولدوا على أرض أمريكية، إلا أن نسبة كبيرة منهم فخورون بكونهم أمريكيين، وفخورون بكونهم مسلمين، وذلك حسب استطلاعات الرأي الصحفية، وبخاصة بعد هدوء الاحتقانات المتكررة بصورة نسبية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
إن المناسبات الإسلامية المهمة لدى المسلمين الأمريكان باختلاف طوائف، يمكن حصرها في شهر رمضان، والعيدين، وكذلك الحج.
وقد دأب الرؤساء الأمريكان من بعد (جيرالد فورد) على تقديم التهنئة للمسلمين في مناسباتهم، وبالذات في شهر رمضان المبارك، وعيد الفطر على وجه الخصوص، ولقد أصبح مشهد مأدبة الإفطار الرمضاني السنوية منظرًا مألوفًا في كل عام، من خلال تلك الموائد التي يقيمها الرؤساء الأمريكان على اختلاف أحزابهم ومرجعياتهم السياسية والثقافية في البيت الأبيض ويستضيفون فيها مشاهير المجتمع الإسلامي الأمريكي.
وفي المناسبات الأخرى، مثل الحج، تعرض قنوات مثل CNN مشاهد للحج، وتجري اللقاءات والتقارير عن المسلمين الأمريكيين الذين يؤدون الفريضة.
ومؤخرًا دخلت مناسبات إسلامية إضافية إلى التقويم الأمريكي شيئًا فشيئًا، كان آخرها رأس السنة الهجرية الجديدة، حيث هنأ الرئيس الأمريكي الحالي (جو بايدن) عموم المسلمين بمطلع السنة الهجرية الجديدة هذا العام، حيث يعد أول رئيس أمريكي يهنئ المسلمين بذلك.
والملاحظ في رسائل التهنئة الرسمية الأمريكية، تحول لغة خطابات التهنئة بمرور الزمن من التهنئة الخاصة لمسلمي الداخل، إلى التهنئة العامة لكل المسلمين حول العالم، وذلك في وعي ذكي يستغل مثل هذه المناسبات العابرة للقارات والثقافات لتسويق القيم الأمريكية، وعرض هذه القيم على أنها هي التي تحترم التعددية الثقافية وحرية الدين والاعتقاد، وذلك كقوة ناعمة إضافية تراعي التزايد المتنامي لعدد المسلمين في الولايات المتحدة وحول العالم، وكبديل محترم لثقافة مرحبة ضد ثقافات أخرى ما تزال غير مرحبة بهذا القدر من التعددية الثقافية والحرة الدينية، كالصين على سبيل المثال.
حسب تقارير مركز (بيو) للأبحاث، فقبل عام 2040 سيصبح المسلمون أكثر تعدادًا من اليهود، والمركز الثاني تعدادًا بعد المسيحية، ولهذا يطمح المسلمون أن تكون مناسباتهم قانونية ذات إجازات معترف بها، وبالذات العيدين، وذلك بعد الاعتراف بها في رسائل المؤسسات الرسمية، وقد تم ذلك جزئيًا وببطء، فعلى سبيل المثال قامت مدينة (نيويورك) قبل سنوات بإعطاء إجازات رسمية لطلاب المدارس في مناسبات إسلامية.
وكذلك يلاحظ الطلاب المسلمون في الولايات المتحدة، على اختلاف مراحلهم الدراسية، مراعاة مؤسساتهم التعليمية لمناسبات إسلامية كشهر رمضان على سبيل المثال، وذلك من حيث تفهم تأثير صوم الطلاب، ونظامهم اليومي المختلف في هذا الشهر، ويبدو ذلك من خلال تخفيف كثير من الأعباء عنهم في هذا الموسم، ولكن ذلك كله يتم بصفة تعاونية لا رسمية، وقد شهدت على أمثلة رائعة عديدة على ذلك.
ومرجع الأمر أيضًا الإجازة الأسبوعية، فهي تراعي الديانة المسيحية واليهودية بكون يومي السبت والأحد عطلات أسبوعية، ولكن يلاحظ في التعليم أيضًا على امتداد الدولة مراعاة يوم الجمعة بكونه نصف يوم عمل في عدة ولايات، وفي كثير من المؤسسات التعليمية.
والأمر المثير كذلك، هو حرص حكام الولايات على تقديم التهنئة للمواطنين الأمريكيين من المسلمين، وبالذات في الولايات ذات العدد الكبير من المسلمين، مثل (إلينويز) و(كولورادو) و(كاليفورنيا) وغيرها. وكلها ولايات تحتل مستوى متقدمًا في دخل الفرد، والمساهمة أيضًا في مستوى الدخل القوي الفيدرالي إجمالًا، وحرص هؤلاء الحكام هو إدراك لقوة المسلمين الانتخابية المؤثرة في المجالس والنقابات على مستوى الولايات.
ولكن يظل الأمر على المستوى الفيدرالي ضعيفًا ولا يكاد يذكر، ويحتاج إلى كثير من العمل، ولكن المبشر هو تنامي الوعي الجمعي الأمريكي بالمناسبات الإسلامية، وتفهم الأمريكيين من مختلف مرجعياتهم الثقافية بحق الأمريكيين المسلمين في الاعتراف الرسمي بمناسباتهم، وبالتالي أن تكون أعيادًا وعطلات رسمية، وذلك في ظل منافسة من ثقافات أخرى أقل تعدادًا من المسلمين، ولكنها قاب قوسين من الحصول على اعتراف رسمي وعطلات قانونية لهم، كديانات الشرق الأقصى مثل البوذية والهندوسية.
ولا نغفل هنا جهود المملكة الواضحة جدًا في خلق الزخم المناسب للوجود الإسلامي، ففي ولاية مثل (كاليفورنيا)، والتي يفوق ناتجها القومي الناتج القومي لبريطانيا على سبيل المثال، ويوجد بها نصف مليون مواطن أمريكي مسلم، يعملون في مختلف الأعمال والوظائف ذات التأثير، يبرز مركز الملك فهد الإسلامي -رحمه الله- كمنارة توعية ومركز إشعاع حضاري وثقافي، ونقطة تجمع لآلاف المسلمين في المناسبات، وذلك بوقوعه في مدينة حيوية ورئيسة مثل (لوس أنجلوس) أحد أكثر مدن الولاية نشاطًا وكثافة.
وغني عن الذكر المراكز الإسلامية التي تعتني بها المملكة، وذلك على امتداد الأراضي الأمريكية، وكذلك المدارس، إضافة إلى الكراسي العلمية والبحثية المرموقة في عدد من الجامعات، وكل ذلك لخلق الزخم للوجود الإسلامي ومناسباته، ولتقديم صورة حضارية لثقافة عريقة عابرة للقارات، ليكون لها تأثير وحضور على مقاعد السياسة والتأثير الداخلي.
إضافة إلى ذلك، يبذل المسلمون فرديًا جهودًا عظيمة في التعريف بثقافتهم السمحة المرحبة، ومن ذلك ما يكون في المساجد والمراكز الإسلامية على امتداد الأراضي الأمريكية، فهي مفتوحة أمام الجميع، وترحب بمختلف الثقافات والزوار، ويكفي المرور على أي مركز إسلامي أو مسجد في أي مدينة أمريكية وذلك في شهر رمضان - على سبيل المثال - لرؤية فعاليات عديدة، من ضمنها الموائد الرمضانية، متاحة أمام جميع الأمريكيين، وليرى الزوار الذين يصطفون لرؤية الصلوات والشعائر، وذلك كرسالة محبة وسلام تحمل قيمًا حضارية متسامحة تحارب بنية التطرف والصورة النمطية التي تم تعليب المسلم الأمريكي فيها وحصره لعقود.
المستقبل قادم وقريب، وهو مفتوح على احتمالات وتحولات كبرى كثيرة، ولكن الوجود المتنامي للمسلمين على التراب الأمريكي يحمل كثيرًا من الأمور الإيجابية حول مزيد من الاعتراف بهم، ومزيد من احترام مناسباتهم الدورية، خاصة وأن المسلمين لا يرون تقاطعًا بين انتمائهم الديني، ومواطنتهم الأمريكية.
** **
وائل بن عبد الله الشهري - أكاديمي سعودي
Twitter: @iwael11