د.شريف بن محمد الأتربي
تعاني المجتمعات من وجود فجوة بين المجتمع العلمي (الصفوة العلمية أو الخبراء) وبين المجتمع بشكل عام والمجتمع التعليمي بشكل خاص، حيث يرى هؤلاء الصفوة أنهم أصحاب العلم والمعرفة، وأن غيرهم يرفل في جهل وظلام، وإذا أراد أن يخرج منها فهم وهم وحدهم مصابيح الإنارة للخروج من هذا الجهل والظلام، وأن أي أفكار أو معارف يتبناها غيرهم هي الجهل بعين ذاته.
وخلال الأيام الماضية عانيت من التسلط العلمي أو حسب المصطلحات الرائجة حالياً، عانيت من التنمر العلمي نتيجة الاحتكار العلمي. بداية يعرف الاحتكار بشكل عام بأنه: الحالة التي يُسيطر فيها شخص، أو منظّمة، أو شركة واحدة سيطرةً تامّةً على بيع أو إنتاج سلعةٍ أو خدمةٍ ما، مع عدم وجود أيّ منافس له يقدم هذه الخدمة في السوق، بحيث يكون قادراً على التحكّم في العرض والسعر، كما يشار إلى وجود ما يُسمّى بالاحتكارات الطبيعية في بعض الصناعات، مثل: إمدادات المياه، وتوليد الطاقة. هذا على مجال السلع، وقياساً على ذلك يكون أيضاً في مجال العلم من قبل العلماء أو من يطلقون على أنفسهم علماء.
أما التسلط، فيشمل أي سلوك مهين أو عدائي أو مسيء، أو تعليق من جانب شخص تجاه شخص آخر، مما يتسبب في تعرضه للإهانة أو التهديد أو الإيذاء دون مبرر، ومن الأمثلة النموذجية على التسلط والمضايقة العدوان اللفظي والصراخ والتحرش الجنسي، وأيضاً نشر الشائعات الخبيثة، ودعوة شخص ما بأسماء مهينة بشكل تقليدي أو استخدام صور نمطية مهينة لوصفها، ومنها البلطجة الإلكترونية من خلال البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية أو وسائل التواصل الاجتماعي؛ وقد تكون المطاردة وتعني إخضاع الفرد لنقد متكرر غير مرغوب فيه، أو إخضاع شخص ما للسخرية العامة، ومنها إلقاء اللوم على إعاقة شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة.
والتنمر هو أحد أشكال الإيذاء الجسدي واللفظي، ومنه العنف الذي يمارسه طفل أو مجموعة من الأطفال ضد طفل آخر، أو إزعاجه بطريقة متعمدة ومتكررة. وقد يأخذ التنمر أشكالاً متعددة كنشر الإشاعات، أو التهديد، أو مهاجمة الطفل المُتنمَّر عليه بدنياً أو لفظياً، أو عزل طفلٍ ما بقصد الإيذاء، أو حركات وأفعال أخرى تحدث بشكل غير ملحوظ.
عوداً إلى نقطة البداية، حيث تعرضت خلال يوم واحد لمحاولتي احتكار علمي، وتسلط وتنمر فكري، من قبل قارئ لمقال لي خاص باستراتيجيات التعلم؛ لم يرق له ربطي بين الشاشات التفاعلية والاستراتيجيات الحديثة للتعليم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أرسل القارئ لي شرحاً للاستراتيجيات يختلف عما ورد في المقالة، وأنا أحترم كل الآراء ولا غضاضة في الاختلاف للصالح العام، أما أن ترى رأيك هو الصحيح وغيرك مخطئ، فهذا أمر غير مقبول لا علمياً ولا إنسانياً، ولا دينياً.
أما الحالة الأخرى، فقد دُعيت إلى المشاركة في ندوة علمية تناقش المشكلات البحثية، وتناول المشاركون هذه المشكلات من جوانب عدة، وحين جاء دوري كنت قد أعددت عدتي لعرض يسرد جانباً من التعليم العام ودور أمين مركز مصادر التعلم في هذا الجانب، وعقبت على ما قاله الإخوة الحضور من ضرورة وجود مادة مهارات بحثية، وغيرها من المقترحات، معتمداً على عملي في هذا المجال لمدة تزيد عن 25 عاماً، ورسالة دكتوراه تصب في هذه الخانة، وما أن انتهيت من كلمتي إلا وخرج أحد المشاركين وهو دكتور فاضل في إحدى الجامعات يسفه ما قلت، بل ويشير إلى أني لم أتحدث في المحور الخاص بي وتجاوزته إلى محور آخر، أهكذا، وعلى الملأ، تتنمر بي وتظهرني جاهلاً بما أقول، لو أنك عقبت بالتوضيح أو التلميح أو الإشارة إلى ذلك، لكان أهون عليَّ مما قلت، كان يمكنني أن أرد الصاع صاعين، ولكن أدب الحوار، وقدسية المجلس منعتني من ذلك، فاكتفيت بإيضاح عدم تجاوزي لمحوري وأن خبرتي وعلمي -ولله الحمد كافية- أن أخوض غمار هذا الموضوع ولو ظللنا نتحاور فيه سنوات وسنوات.
إن مقالي هذا لا يهدف فقط إلى الإشارة إلى حالة خاصة، ولكنها فعلاً حالة تكاد تكون شبه عامة، فما من ملتقى ولا ندوة ولا اجتماع إلا وتجد من يرى نفسه حارساً العلم والمالك الأوحد لمفاتحه، هذا والمتحاورون على درجات علمية متقاربة، فما بالك لو كان أحد الحضور طالباً أو باحثاً لازال يتلمس بداية الطريق، فإما أنك سوف تصيبه بالإحباط، أو أنك ستصنع منه شخصية احتكارية للعلم من جديد.