مها محمد الشريف
تلك التعاسة المخيمة على أوروبا كلها وليس على ألمانيا فقط، سببها الأول أزمة أوكرانيا التي وقفت حجر عثرة في طريق الاقتصاد مع روسيا وحدثت في واقع غائب يحمل تمظهرات منقوصة، وتزايد الجدل في الداخل حول تظاهرات مؤيدة لروسيا، وألمانيا تلعب دورا محوريا في الأزمة الأوكرانية لأسباب عديدة بينها علاقاتها مع روسيا، وموقفها من الأزمة واحتدام الجدل في برلين، علما أن موقف المستشار الجديد أولاف شولتس بشأن التوتر مع روسيا هو ضمن الحد الأدنى: وتصريحاته عن الأزمة عامة وقصيرة جدًا ومختصرة، ودلالة على موقفه مع روسيا.
واتهم الاتحاد الأوروبي ألمانيا بالتناقض في التعامل مع الأزمة الأوكرانية وكثير يرى بأن السياسة الألمانية تتسم بالازدواجية في تصدير الأسلحة إلى أوكرانيا وترسل قوات قتالية داخل الناتو شرق أوروبا، وتفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، وهي لا تزال تستورد الغاز الروسي وتصدر صادرات ذات استخدامات مزدوجة إلى روسيا.
بينما الحقيقة تقول: إن هناك غاية أكبر من الفرضيات سواء كانت شخصية أوعلى مستوى العلاقات السياسية، واعتبر الكثير أنه ليس ذلك بالأمر اليسير في القرار السياسي والدخول الفعلي منذ تسلّم شولتس للحكم حيث «ساد الارتباك بشأن تحديد من يوجّه سياسة برلين تجاه روسيا، هل هي المستشارية التي يقودها الاشتراكيون أو الخارجية التي يقودها الخضر، والنتيجة كانت مواقف متضاربة أوحت أن برلين تفتقر إلى القيادة حسبما نشرته بعض الصحف العالمية، وهذه التمويهات مبهمة إلى حد ما ولكنها كافية لهذا المدخل الذي يشير إلى الانقسام في اتخاذ القرار.
ولأجل عرض واضح يتبيّن أن لغة المطالب السياسية بعيدة عن معناها الحقيقي في ظل دولة حسنة التنظيم، ولكن الازدواجية لا تعالج مشكلات أساسية بصورة عقلانية، واعتبرت وزيرة الدفاع الاشتراكية الديموقراطية أن قرار تشغيل خط الأنابيب الذي يربط بين روسيا وألمانيا يجب أن يبقى خارج الملف الأوكراني. فهل هذا الاقتضاء هو تقديم البرهان في الموقف المزدوج؟ الذي أثار استياء أوكرانيا من علاقات المانيا بروسيا.
ولهذه المسائل أولوية قصوى في حلف الناتو؟، لكن مؤخراً تعهد المستشار شولتس بتضامن كامل مع أوكرانيا ومواطنيها في مواجهة الهجوم الروسي. وقال: «بصفتنا ديمقراطيات وديموقراطيين، بصفتنا أوروبيات وأوروبيين، فإننا نقف بجانبهم، على الجانب الصائب للتاريخ»، وإرسال أسلحة إلى أوكرانيا، و»لم يكن هناك رد آخر على (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلا بتزويد أوكرانيا في أسرع وقت» ألف قاذفة صواريخ و500 صاروخ أرض-جو من طراز ستينغر لمساعدتها في مواجهة الجيش الروسي».
ولا ينبغي الاعتقاد بأن السياسة كالصور أو المثُل ثابتة، وإن كل شيء يمكن أن يتغير بما فيه من فجوات والتباسات، وكيف غير حرب روسيا لأوكرانيا جوانب ثابتة في السياسة الألمانية منذ عقود؟، ولكن الضغوط الأوروبية وأمريكا وغضب زيلينسكي من استمرار شركات ألمانية في العمل في روسيا جعله يوجه حديثه لنواب البرلمان الألماني، البوندستاغ، إن هناك جدارا جديدا يشبه جدار برلين، يجري بناؤه حاليا، للفصل بين الحرية، والقمع في أوروبا.
ويمكن أن توصف السياسة هنا بتعديل مسار التاريخ الألماني ولن تكون موزونة كما يجب إلا عندما تُقاس بواسطة الضد وتحدد ما يكون مطلوباً ومؤاتيا ومناسباً، فلأجواء تخبر بحرب باردة إعلامية بين ألمانيا وروسيا بعد تبادل حظر بث «روسيا اليوم ـ دي إي» و»دويتشه فيله» وقد أحدثت آثارها بعد الأزمة الأوكرانية وتعتبر صورة مطابقة لفكرة العالم وتأكيد مرة أخرى على أن العقل لا ينفصل عن امتياز الطبع، وحين نرى في حياة الشعوب شيئا من الرصانة والتبجيل والغموض والمتناقضات فإننا نفهم أنه لا يزال فيها شيء من الرعب الذي كان فيما مضى يتربع على الوعود والالتزامات.
وتغير المواقف حيث تبادل التغريد على تويتر المستشار الألماني بدعم كبير لأوكرانيا قابله فولوديمير زيلينسكي بتغريدة أخرى بالشكر والثناء، وتوظيف وسائل الاتصال الاجتماعي في الأزمة، وأصبحت لغة الحوار بين الساسة، حيث تبدو هذه المسألة للوهلة الأولى سؤالاً منفصلاً، فهل هي أخلاق الشفقة والمبالغة في تقديرها؟، أم أن كل أشكال الريبة والشك والتوجس تهاوت، ونتج عنها علاقات سياسية هامة تفوق المصالح الاقتصادية، وهذا هو الاكتئاب العميق والتعاسة التي أصابت الغرب.