مشعل الحارثي
يستذكر أشقاؤنا الأعزاء في دولة الإمارات العربية المتحدة هذه الأيام قيادةً وشعباً الذكرى الثامنة عشرة لرحيل قائد حكيم وأب رحيم، ومرجع تاريخي من مراجع الأمة العربية والإسلامية، صاحب الأمجاد ومؤسس الاتحاد، الذي جعل الإمارات المتفرّقة متوحّدة الجسد والأعضاد، فأعلى فيها صروح البناء وأشاد، وتفيأت أرضها بالأمن والاستقرار وفيض الوداد، وتوشحت بالخير والنماء والسعد والإسعاد، ذلكم هو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -رحمه الله - أول رئيس لدولة الإمارات العربية المتحدة سيد الجود والأجواد، القادم من عرين الأباة الآساد من قبيلة (بني ياس) ومن عائلة (بو فلاح) التي خرجت منها أسرة (آل نهيان) المعروفة بالعدل والصلاح والحزم وقوة البأس والحرص على وحدة الصف وجمع القبائل على كلمة سواء.
رجل السلام أخو الصلاح أبو الهدى
ذاك التقي الألمعي المهتدي
من ساس بالإعزاز كل مطاوع
وأذل بالجبروت كل معاند
أكرم به من طاهر في أصله
متألق الانساب عالي المحتد
يا طيباً من أصل بيت طيب
يا صاحب الطبع الرقيق الاملد
يا حازماً عرف الورى عزماته
يا من فعالك لم تكن بتردد
والحديث عن الشيخ زايد آل نهيان -رحمه الله - حديث يطول ويطول نظراً لما تكتنفه مسيرة هذه الشخصية الفذة من مواقف ومحطات تاريخية متعددة مما يجعل الإحاطة بكل جوانبها في هذه المساحة المحدودة أمراً في غاية الصعوبة بدءاً من مراحل حياته ومنذ أن أبصرت عيناه النور ومرحلة نشأته وتربيته في كنف آبائه وأجداده إلى أن أصبح حاكماً لمدينة العين عام 1946م، ثم حاكماً لإمارة أبوظبي عام 1966م، وما تعرض له من تحديات وواجهه من صعوبات هائلة إلا أن توجهه الوحدوي المتأصل في فكره وفلسفته كان حلمه وهاجسه الأول والأخير منذ حكمه للمنطقة الشرقية فهو يقول: (الاتحاد أمنيتي وأسمى أهدافي لشعب الإمارات)، ومن خلال هذا العزم والإصرار والرؤية الواضحة بضرورة الوحدة والاتحاد بين تلك المشيخات والإمارات المتجاورة المتصالحة التي تتراص على مساحة واحدة لا فواصل بينها جاءت الخطوة الفاعلة التي مهدت الطريق لتحقيق حلم زايد بلقاء واتفاق (السمحة) الشهير في فبراير 1968م بينه وبين أخيه الشيخ راشد بن سعيد المكتوم حاكم دبي وإعلان قيام أول اتحاد ثنائي بين إمارتي أبوظبي ودبي لتكون النواة الحقيقية لولادة دولة الإمارات العربية المتحدة وانتظام عقدها الفريد منذ الثاني من ديسمبر 1971م.
لم يمت زايد ففي كل شبر
من ثرى الأرض فيه منه بهاء
للإمارات صاغ عقداً فريدا
لا تضاهي بريقه الجوزاء
وحد الشعب تربة ومصيرا
راية بالعلا حوتها السماء
وليبدأ الشيخ زايد بعد ذلك وثبته التاريخية التي انتفضت لها أرجاء الإمارات استشعاراً بولادة كيان جديد انطلق من أراض قاحلة جرداء لم تتوفر لها أبسط مقومات الحياة الطبيعية ليحيلها بالعزم والإيمان والثقة بالله وبما يمتلكه من قوة وإرادة للتغيير إلى رياض خضراء ودوحة ظليلة وإلى شعب متعاون متآلف متكاتف ودولة عصرية متوهجة بالحب والعطاء وقوة الانتماء.
فشهدت البلاد طوال مدة حكمه منجزات تنموية عملاقة فاقت كل التصورات والتوقعات تمثَّلت في إقامة البنية التحتية الأساسية على امتداد الإمارات ومختلف القطاعات، وتوفير كافة الخدمات في تخطيط تنموي اتسم بالتوازن والشمولية، واستطاع أن يحقق وفي آن واحد مزيجاً فريداً من التطور المادي والاجتماعي وكان إنسان الإمارات هو المحور الأساس والرهان الحقيقي الذي اتجهت إليه كافة جهود التنمية فنقل الإمارات وفي مدة وجيزة إلى عصر جديد ووثب بها إلى مصاف الدول الحضارية المتقدمة.
وإذا الإمارات ازدهت بسعادة
فلقد حباها تاج حلمك عسجدا
ألبست رمل البيد خضر كواعب
غنى الزمان لحسنهن وغردا
فتحت فيها كل باب للرخا
وجعلت باب الفقر فيها موصدا
فرأت به الأوطان قدوة سعيها
وغدت مزاراً للشعوب ومقصدا
لقد كان الشيخ زايد وبما اتصف به من خصال وشيم وقيم عربية أصيلة قريباً من الناس حفياً بهم يشملهم بحنوه الأبوي الكبير، ولم يكن مثيراً للدهشة أن يجدوه دوماً بينهم مشاركاً لهم أفراحهم وأتراحهم يشاطرهم أمانيهم ويبني معهم أحلامهم ومشجعاً لهم على ارتياد بحور العلم والسعي في طلبه والمنافسة فيه، وكان يغدق عليهم بالتوجيه السديد والنصح الرشيد، ويستمع إلى آرائهم ويأخذ بمشورتهم، وعندما رأوا صدق أفعاله قبل أقواله وبرهان عطائه المنقطع النظير وأنه الساهر الأمين على راحتهم ورعاية مصالحهم وأنه فارسهم المنتظر حتى امتلك قلوبهم فأقبلوا عليه وبادلوه حباً بحب وأخلصوا في الوفاء له في حياته وبعد مماته.
إن الإمارات التي وحدتها
لولا جهودك حولها لم توجد
أرسيت مجداً بل صنعت حضارة
عظمى تلوح بعسجد وزبرجد
تهوى التطور كل حين لم تكن
يوماً على درب الرقي بجامد
وفي خضم عمله الجاد وبناء دولته الجديدة لم ينفصل الشيخ زايد وبلاده عن محيطه الإقليمي والعربي والإسلامي والعالمي، بل أدرك أنه جزء لا يتجزأ منه وكان في بؤرة الحدث بمواقفه الحكيمة ونظرته البعيدة، فأمن بوحدة العرب ومصيرهم المشترك وبذل أقصى جهوده لجمع الصف والتضامن والإخاء والوئام ونبذ الفرقة لمواجهة كافة التحديات ومناصرة القضايا العادلة وضمان الحقوق الإنسانية، وساهم في التنمية لمعظم الدول والأقطار العربية والإسلامية، كما سعى لتوطيد علاقته بأشقائه وإخوانه في منطقة الخليج وبادر لضم شملهم في وحدة عملية لصالح ومستقبل شعوبها وأجيالها القادمة فكان قيام مجلس التعاون الخليجي أحد الشواهد الحيَّة على عمق رؤيته وثاقب بصيرته.
رجل أطل على بلادي فارساً
فرأيت شعبي بالمنى يتفاءل
هو زايد وهو الزعيم المرتجى
فيه الشجاعة والوفاء خصال
والجود في يده أقام ولم تزل
تبنى بجود الأكرمين منازل
ونحن عندما نشارك أشقاءنا في دولة الإمارات العربية المتحدة بكل فخر واعتزاز استذكار مآثر الشيخ زايد آل نهيان -رحمه الله - إنما نقف معهم وقفة وفاء وعرفان وتقدير وامتنان لأحد قادة الخليج الكبار وزعماء العرب البارزين وجهوده -طيّب الله ثراه - وإخوانه أعضاء المجلس الأعلى حكام الإمارات فيما تحقق لدولة الإمارات طوال حكمه وإلى اليوم من منجزات تنموية هائلة ومكانة عالية ومنزلة مرموقة جعلت من الإمارات العربية المتحدة النموذج والمثال الذي يحتذى به على مستوى دول العالم.
ماذا أقول وقد سكنت قلوبنا
عشقاً يدوم على دوام سهاد
لكأنما سكنت رؤاك قلوبنا
فبقيت فيها ساكن الآباد
إن ما تحقق على أرض الواقع من علاقات متميزة وفاعلة ومواقف بناءة بين المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله - وحتى العهد الزاهر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين محمد بن سلمان وبين دولة الإمارات العربية المتحدة ومنذ عهد صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات -رحمه الله - وعقبه وخليفته صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وحكام الإمارات يعد نموذجاً فريداً وثمرة يانعة للتقارب والصدق والوضوح التام في التعامل والتنسيق والتشاور المستمر والتماثل في المواقف المشتركة تجاه العديد من القضايا والاهتمامات التي تتجاوز في حقيقتها كل مفاهيم وأبعاد العلاقات الدولية إلى مفاهيم أعمق تجسّد خلالها أبرز معاني الأخوة ووشائج الارتباط والقواسم المشتركة على جميع الأصعدة.
ماذا احدث عنها كلها شيم
عظيمة أنت يا أرض الإمارات
يا زايد الخير لو تدري بما غرست
يداك صار غراس الأمس جنات
خليفة قد مشى في خطوكم قدماً
له البعيد وأعتى المستحيلات
وخلفه الأسد شادوها بهمتهم
مشاعل العز صناع الطموحات
ومن استقراء تلك الحقائق والمسيرة الخالدة للشيخ زايد آل نهيان ما يثبت بحق بأن الأمم العظيمة تستمد عظمتها من قائد عظيم يرتفع بوطنه ومواطنيه ويبذل أقصى جهوده ووقته لما يحقق لهم الطمأنينة والحياة الكريمة وكل ما يعود عليهم بالنفع والخير والرفاه، ويترك بعد رحيله بصمات واضحة للعيان وشواهد لا خلاف عليها تلهج بها قلوب مواطنيه وأبناء شعبه في حياته ومماته وقبل أن يدوّنها التاريخ في أنصع صفحاته.
أنت فينا خواطر ليس تفنى
وبلاد ومنزل لا يهون
سوف تبقى وإن رحلت حديثاً
ليس ينسى وللحديث شجون
رحم الله الشيخ زايد آل نهيان باني تاريخ وأمجاد الإمارات وجزاه مولاه على ما قدَّم لبلاده وأمته وللعالم خير الجزاء، وكتب له واسع المغفرة وأسكنه فسيح الجنان.
- الشواهد الشعرية لكل من الشعراء: بوجمعة المخطوبي، فاهم بن سلطان القاسمي، عبدالله الجعيدي، مانع سعيد العتيبة، محمد عبدالرحمن المقرن، سالم الزمر.