الدفاع عن الوطن ليس بالسلاح وبالحرب بحسب بل أصبح الدفاع عن الوطن من خلال الكلمة والرسالة والتغريدة والتمسك بالقيم والسلوكيات الإيجابية، بهذه الكلمات افتتح صاحب السمو الملكي الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود آل سعود أمير منطقة القصيم في حفل تكريم الفائزين بجائز صناعة المحتوى الرقمي في وسائل التواصل الاجتماعي المنعقد في يوم الأربعاء 27 شعبان 1443هـ وهي جائزة تقديرية تهدف إبراز النموذج الجيد والمواطنة الصالحة في تقديم المحتوى الفكري والأخلاقي الإيجابي، وتأصيل القيم والسلوكيات الحميدة ودعم المسؤولية الوطنية بين مرتادي منصات التواصل الاجتماعي لتحفيز تفاعلهم بما يخدم الوطن والمواطن، وبث روح التنافس الإيجابي بين صناع المحتوى الرقمي للحفاظ على أمن المنظومة الفكرية للوطن وتحقيق أعلى مستويات التفاعل بين مجتمعات وسائل التواصل الاجتماعي وتوجيه مساراته نحو حماية الأمن الفكري والولاء والانتماء الوطني.
وانطلاقاً من هذا المحفل الوطني لمبادرة نوعية وممنهجة ومن رؤية ثاقبة ومسؤولية وطنية لتحقيق الأمن الفكري بمفهومة الشامل من خلال إبراز نماذج وطنية مشرفة في تقديم المحتوى الفكري والأخلاقي في منصات التواصل الاجتماعي. وكما تواءمت منهجية ومسارات هذه الجائزة مع استراتيجية الأمن الفكري كمنهج حضاري وأخلاقي، والتي تتضمن 20 هدفاً استراتيجياً، ومنها تلك الأهداف الوطنية:
1- حماية سيادة المملكة ورفض التدخل في شؤونها الداخلية.
2- تعزيز الهوية الوطنية.
3- صون أمن المملكة واستقرارها.
4- تعزيز الصمود والقدرة على مواجهة المخاطر والأزمات الوطنية.
5- مكافحة الإرهاب وتمويله والتطرف والجريمة المنظمة والتجسس.
6- إبراز النموذج الإسلامي المعتدل للمملكة العربية السعودية.
يكون لنا وقفة تقديراً لمثل هذه الجهود الوطنية في نشر ثقافة صناعة المحتوى الرقمي الهادف، وتكوين المفاهيم والتصورات السليمة في كافة مجالات الحياة العامة التي تمس الأمن الفكري واستثمار الطاقات لتحقيق أفضل النتائج في بناء شخصية المواطنة الصالحة بما يحقق حماية العقل والثقافة والهوية الوطنية والقيم وتوجيه السلوك الإيجابي وتعظيم الحس الوطني في الحفاظ على استقرار نسيج الأمن المجتمعي. ولا تزال الحاجة إلى توجيه تلك الجهود الوطنية للحفاظ على سلامة منظومة المجتمع من خلال معرفته بمكونات هويته الإسلامية والوطنية والعيش في إطارها وفق منهجية متوازنة تصون الفكر وتوطن الاستقرار وتؤمن الحقوق للفرد والمجتمع، لذلك فالأمن الفكري عام وشامل للعقيدة والأمن والسياسة والاقتصاد وعموم ما يتصل بحياة الناس.
ونظراً لتغلغل الإعلام الرقمي في جميع مفاصل حياتنا اليومية حتى أضحى مصدراً أساساً لمعلوماتنا، يصنع آراءنا، ويغذي خيالنا، ويعيد تشكيل واقعنا، فترك -رغم بعض إيجابياته-آثاراً خطيرة على المستويين الفردي والجماعي ليشكل ظاهرة تهدد منظومة القيم والأخلاق السائدة، فضلاً عن آثاره المستقبلية وهو ما دفع لضرورة البدء بإجراءات لتحصين النشء وتربيتهم على استثمار وسائل الاتصال الرقمي وتجنب مخاطرها عبر تطوير مهاراتهم ونشر المبادئ التي تقودهم لاكتساب الحس النقدي الإيجابي الذي ينأى بهم عن التعاطي السلبي معها.
لذا فالتربية الإعلامية الرقمية ليست ترفاً بل هي موضوع ملح وضرورة قصوى في ضوء ما تمر به مجتمعاتنا من تحديات ومخاطر، مما أوجب التوجه نحوها ضرورة عصرية لمواكبة تطور فضاءات الرقمية الرابعة ومواكبة مستجدات التربية الحديثة، وخاصة في ظل ولوجنا إلى عصر التواصل الرقمي بالتداخل والاندماج التقني لمختلف الوسائل والذي نتج عنه المد الحضاري السيبرنتي وانفتاح غير مسبوق بين الأمم والحضارات وتداخل في الثقافات.
وفي إطار هذا التصور فالتربية الإعلامية الرقمية تشكل مشروعاً تربوياً تهدف إلى تحقيق مواصفات المتعلم في رؤية المملكة 2030 (لديه قيم عالية، واع وقوي، فخور بإرثه الثقافي العريق، يعتز بهويته الوطنية، يؤمن بالوسطية والاعتدال والتسامح) وتمكين الأفراد من القدرة على التفاعل الموضوعي والعقلاني الذكي مع الشبكات الرقمية بطريقة نقدية مسؤولة أخلاقية بما يتفق مع قيمه وهويته دون أن يتعارض ذلك مع قيم مجتمعه وثقافته.
وتهيئ التربية الإعلامية الرقمية مجموعة من القواعد التي تحدد المهارات والخبرات والكفاءات والسلوكيات الخاصة ووضعها في دائرة الفهم النقدي المتطور لتمكينهم من الخوض الآمن والفعال مع ثقافة مشبعة بالرسائل الإعلامية في وقت أصبحت فيه هي الموجه الأكبر والسلطة المؤثرة على القيم والتوجهات والممارسات في مختلف جوانب الحياة.
ومن هنا تبرز أهمية إيجاد منهجية لمساحة تربوية إعلامية والتي تعنى بالتشكيل الإيجابي لسلوك المتعلم التي تكسبه القدرة على الاختيار والتفكير الناقد والإدراك وانتقاء المحتوى الإعلامي الملائم، وعلى تحقيق الاستقلال الذاتي والبرهنة على امتلاكهم للروح النقدية في مواجهة المضامين الإعلامية الصريحة والخفية في المحتوى الرقمي ونصوص الرسائل الإعلامية بما تنطوي عليه من تضاريس وحدود رمزية، وإيجاد درجة متقدمة من الوعي على فهم طبيعة المحتوى الرقمي واختيار مضامينها وتفسير رسائلها وتنمية المهارات الأساسية للتساؤل النقدي وتشكيل وعي إعلامي ناقد يكون بمثابة مناعة مضادة لمخاطر إفرازات تأثيرات منصات التواصل الاجتماعي ومحتوياتها، وخلق توأمة ودمج بين القيم التربوية المجتمعية التقليدية والعالم الرقمي لأجل مواكبة مستجدات منصات التواصل الاجتماعي على الساحة العالمية.
التربية الإعلامية الرقمية ما تزال غائبةً -أو مغيبةً - رغم التحديات والمخاطر التي تفرضها البيئة الرقمية، ولاسيما مع وجود فجوة رقمية هائلة تستوجب وعياً ضرورياً وإجراءات عاجلة لتضمينها في المناهج الدراسية أو في برامج الأنشطة والتدريب والصيفي وفي برامج إعداد المعلم مما تسهم في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030 في برنامج تعزيز الشخصية السعودية وتطلعات برنامج تنمية القدرات البشرية الذي يهدف إلى تنمية وتعزيز الهوية الوطنية للأفراد وإرسائها على القيم الإسلامية والوطنية، وتكوين جيل متسق وفاعل مع توجه المملكة سياسيا واقتصادياً، وفي نفس الوقت وقايتهم من المهددات الدينية والأمنية والاجتماعية والثقافية وكما تسهم في تحقيق مطالب الخطة التنموية العاشرة التي أكدت على ترسيخ قيم المواطنة والوسطية والحوار الهادف والهوية الوطنية ومفهوم المواطنة والانتماء ومبادئ العدل والمساواة وحقوق الإنسان عبر سياسات تؤكد تعزيز الأمن الوطني الشامل.
وحماية الفكر تبدأ بتعزيز الوعي ومعالجة مكامن القصور وعودة الأسرة والمدرسة لصدارتها في مسؤوليتها وتفعيل دورها في التربية والمتابعة وقوتها كما كانت في السابق وخاصة مع ظهور الانفتاح الإعلامي «البث الفضائي ووسائل التواصل الاجتماعي» التي تعمل وفق مخطط ممنهج لاختراق فكر الشباب دون أن يجد تحصيناً من قبل الطرف الآخر أو توعية أو تصحيحاً للمفاهيم، فالشاب يتلقى معلومات خاطئة فلا يجد من يصححها له، وبالتالي يتقبلها ويعتنقها، نحن بحاجة لتنقية المفاهيم والمبادئ، اليوم الناشئة يعانون من اختلاط المفاهيم والثقافة وللأسف تلقي المعلومة الخاطئة من تلك المصادر.
وصون الفكر وحمايته بحاجة إلى بناء استراتيجيات ومبادرات نوعية وأطر تنظيمية مرتبطة بمستهدفات صون أمن المملكة واستقرارها من خلال توظيف كافة الإمكانات والموارد واستثمار الطاقات لتحقيق أفضل النتائج في بناء شخصية أبنائنا من خلال إكساب الطالب المعارف والمهارات والسلوكيات الحميدة ليكونوا ذا شخصية تتصف بروح المواطنة والحس الوطني الرفيع التي لديها القدر الكافي من الوعي الذاتي والاجتماعي والثقافي في التعامل مع التهديدات والمخاطر التي تنال من أمن الوطن، واستحداث خيارات خطط تطويرية متجددة لها دورها في تحقيق الأهداف بشكل منظم ومنهجي قادرة على إحداث التغيير المنشود في خلق أجيال واعية ومنتمية ومدركة لمصالح الوطن وعارفة بالتحديات والمخاطر الداخلية والخارجية التي تواجه أمن الوطن وغرس روح الانتماء الحق والولاء الصادق للوطن وتطوير السلوك بما يتناسب ومقتضيات المصلحة الوطنية والإسهام في التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة للوطن واستقراره. وبحاجة إلى تحقيق التكامل بين قطاعات الدولة الحكومية والقطاع الخاص ذات العلاقة والمؤسسات التعليمية والدينية والأسرة وبحاجة إلى تعزيز العلاقة التبادلية بين منظومة الأمن الشامل ومنظومة التعليم بما يحقق حماية العقل والثقافة والهوية الوطنية والقيم والمواطنة لدى الناشئة والشباب في المجتمع وتوجيه السلوك الإيجابي وتهيئة أبناء الوطن للتعامل مع المخاطر والتهديدات والتعاون مع الجهات المختصة لصون أمن الدولة واستقرار نسيج الأمن المجتمعي.
فاليوم ولادة الحاجة الحقيقية وبقوة إلى التربية الإعلامية الرقمية من أجل تجنب المخاطر في البيئة الرقمية والتحكم في الفضاء الرقمي وتمكينهم على التكيف مع متطلبات الحياة المعقدة ضمن فضاء اجتماعي ثقافي سياسي مثقل بحمل أمانة حماية العقول وصون الوطن وحمايته وهو ما يتطلب ممارسة ضغط أكبر من قبل المجتمع والمؤسسات العلمية والأكاديمية للتوعية بمفهوم التربية الإعلامية الرقمية لكونها أحد الحقوق الأساسية التي ينبغي أن تضمنها الحكومات ومؤسساتها.
ويبقى تعزيز الأمن الفكري وبث الوعي الفكري في قالبه المؤسسي صمام الأمان للمجتمع السعودي -بإذن الله تعالى- ضد الأمراض الاجتماعية، والأسقام الفكرية، والانحرافات السلوكية تحت ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهد الأمين محمد بن سلمان حفظهما الله.
** **
@maaiqarzae
Mahawy4@yahoo.com