م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1- لماذا الأصل في حقيقة الأشياء صلبة وخشنة إذا لم يتم تجميلها أو تحسينها أو تهذيبها؟ فالحقيقة جارحة لذلك نداريها أو ندور حولها حينما نريد قولها لمن نحب.. وننصح أبناءنا بأن الصدق منجاة وكأننا نحثهم عليه.. ولماذا الكذب مريح والخيال مريح والأحلام مريحة؟
2- لماذا هذا الصراع الأزلي بين الحقيقة والوهم، والوعي واللاوعي، والعقل والنقل، والمطلق والنسبي، والواقع والخيال؟ لماذا يحتاج الإنسان إلى أن يتصارع أمامه الحق والوهم حتى يختار أحدهما؟ لماذا يضطر الإنسان إلى أن يصادم نفسه أو الآخرين حتى يقبل الواقع وينفي الخيال، أو يُقَدِّم العقل على النقل، أو ينحاز للوعي ضد اللاوعي؟ لماذا يحتاج الإنسان إلى أن يحذر ما يضره ويبحث عما ينفعه.. أليس له عقل؟
3- أفتى الإمام المصري محمد عبده قبل أكثر من مائة عام أن (العقل إمام)، فالعقل هو الذي يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات.. ومن الخطورة التامة عليه تركه إلى أن يصدأ أو يتراكم عليه الغبار أو ينغلق.. الحياة تتحرك من حولنا، وإذا لم تتحرك عقولنا معها تخلفنا وأصبحنا نهباً للظروف والمغامرين والأفاقين، تحت مسميات كانت يوماً ما حقاً لكنها اليوم يُراد بها باطل.
4- لا شك أن التعصب يولّد التعصب، والكراهية تؤدي إلى الكراهية، والخمول يقود إلى الخمول، والجمود نتيجته الجمود، والأمراض تتناسل حتى تصبح أوبئة، وهذه حقائق لا يمكن تجاوزها.. ومع هذا يحتاج الإنسان إلى أن يعرف مصلحته ويَحْذر من المخاطر التي سوف يواجهها إذا اقترف أحدها.
5- من المتفق عليه أن من غرائز البشر أنهم لا يتحركون إلا تحت التهديد وليس بدافع المصالح إلا إذا كان في أمر لا يدعوهم للتحرك! فغريزة البقاء توحي لهم أن عدم الحركة تعزز فرص البقاء، وأن السكون لا يعرضهم للتهديد.. بمعنى أن الدوافع السلبية لها تأثير أقوى من الدوافع الإيجابية على تحرك الإنسان وتقدمه.. والأغرب من ذلك أن تلك الدوافع السلبية تُقَدّم لهم بصيغ قديمة وجديدة مُحَدَّثة.. صيغ مليئة بالتعصب توجهها أهواء ومصالح آخرين (من الداخل والخارج) في بيئة تعاني من الجمود الاجتماعي والخمول العقلي، تتصادم فيها مفاهيم وأعراف متناقضة.. ومع هذا فهي حيوية متفاعلة مع محيطها، الجميع يروج لها وكأنها أوامر إلهية منزلة!
6- مقابل غرائز الإنسان الحذرة التي تتماشى مع رغباته وأهوائه وتميل إلى الدعة والسكون وطلب الراحة، تبرز فطرته التي تبحث عن الرقي والنمو والصعود.. وتدفع إلى التمرد والكفاح من أجل الخلاص والتحرر وطلب الارتقاء بالحياة والعيش فيها، وتصويب الأخطاء المتوارثة من الأعراف والتقاليد.. وإيقاظ الوعي النائم، وتصحيح الوعي الزائف، وجذب الإنسان إلى أرض الواقع وليس الخيالات المتوهمة.. وهذا لا يتم إلا بالتمرد على القائم والكفاح ضد السائد ومواجهه الحقيقة رغم قسوتها.
7- فطرة الإنسان الباحثة عن الارتقاء تجعله أمام خيارات أحلاها مر.. فهو سيكون في مواجهة فئوية العقول والمفاهيم التي تنضوي تحت مظلة الدين أو المذهب أو القبيلة أو العرق أو المنطقة.. التي تعتمد على تهييج العواطف واحتقان الخواطر وشحن النفوس واستدعاء التاريخ.. وكلها لا تجد حلاً لمشاكلها إلا بالتدمير والحروب والإلغاء والتصفية.. ووسط كل هذا يضيع الوطن، فالوطن ليس ضمن معادلة العمل والتعاون والسعي للارتقاء في الحياة والنظر للمستقبل.. لهذا يتخندق الجميع ضد الجميع فتضيع المكتسبات الوقتية على قلتها.
8- أمام كل هذا، ماذا على الإنسان الباحث عن الارتقاء أن يفعل؟ فكل فئة تطرح نفسها على أنها هي الحل وهي الحماية، وأن الآخر ليس سوى تهديد للحاضر والمستقبل.. وكل فئة لا تعمل على الاستنارة بل على التعمية والتسطيح في سبيل كسب الجولة أمام الفئات الأخرى مهما كانت الخسائر.. أمام هذه الحالة لا أحد يملك خيار تجاهلها أو التغاضي عنها أو حتى القفز عليها مهما كانت المبررات ومهما كانت التكاليف.. هنا يصبح تدخل الدولة مهماً وحاسماً، ويكون الحُكْم الرشيد هو سيد الساحة.