«الجزيرة» - كتب:
تتوقف زاوية من ذاكرة المكتبة عند كتاب من أمهات كتاب النقد الحديث، فهو الكتاب الذي وضع قواعد هذا الفن وأرسى دعائمه، وهو: «أصول النقد الأدبي»، لأحمد الشايب رحمه الله الذي حصل على درجة أستاذ كرسي دون أن يحصل على شهادة الدكتوراه، لذا فهو أستاذ بجامعة القاهرة، وهذا الكتاب الذي صدر عام 1940م، أي قبل واحد وثمانين عامًا ما زالت أقلام النقاد تعتمد عليه وتقتبس من نوره، يقول الشايب في هذا الميدان: «إن أهم ما تمتاز به الدراسات الأدبية في عصرنا الحديث، إنما هو تعدد جوانبها وتعمقها، فلم يعد الدارس يكتفى بالمعاني اللغوية، والنكت - النحوية، والصور البيانية، للألفاظ والتراكيب، لكنه جاوز ذلك إلى منهج عريض عميق، يعد الأدب «ثمرة طبعية لشيئين: البيئة والأديب. ويريد بالبيئة أعم ما تحمل من معنى، لتشمل جميع المؤثرات الطبعية، والصناعية، والسياسية، والاجتماعية، والعلمية، والفنية التي توافرت لشعب ما في عصر من العصور فكانت عوامله الأدبية، وتربته الصالحة لنضج الأدب وغرس الأدباء.
لذلك كان الدارس مضطراً أمام هذا القانون أن يلم بعناصر البيئة - الأدبية أولا، يتخذ منها هدى ونورا، يكشف له عن كثير من موضوعات - الأدب وفنونه، وعناصره. ويشرح له ما لزم الأدب، أو طرأ عليه، من أطوار ومزايا أشرنا إليها في الكلام على المنهج التاريخي. كذلك كان على الدارس أن يلم بالأديب المنشي. ثانياً، فيظهر على سيرته ومقوماته، التي لم تتقدم به خطوة أخرى نحو الأدب، فتعلل أكثر خواصه اللفظية والمعنوية، ما دام الأديب هو المصدر المباشر لآثاره شعرا ونثرا كما ذكرنا ذلك في المنهج - الشخصي. فإذا وصل إلى الأدب ذاته واجه فيه ثمرة هذين الشيئين المتفاعلين، وربما ظفر فيه بألوان من القوة تسمو على التفسير، وتتعالى على القوانين وتسمح الذوق أن يدركها من دون أن تبيح للعقل تحليلها وهتك أسرارها.
وهنا حيث يتجلى الأدب فنا رفيعاً – يتقدم النقد الأدبي بمعناه الخاص محاولا بيان ما في هذا الفن من مزايا قويمة أو هنات ذميمة، متبينا فيها آثار الزمان والمكان والجنس والشخصية، مفيضاً منها على الأدب والأدباء والقراء، رشادا وتقويما ومادة للعقل والشعور كما بينا ذلك في المنهج النقدي.
وقد كان النقد الأدبي ثمرة الأدب ذاته، وصداه المتردد في نفوس القراء، فبكر إلى الحياة مصلياً، وتعقب المنشئين مفسرا رفيقا أو ناعيا - قاسياً، وتأثر هو أيضاً أثناء تاريخه الطويل بعوامل وقفت به في أغلب - نواحيه، عند عناصر الأدب مفردة، فتناولها مسرعاً غير مستقص ولا عميق، ومر تجلا لا يردها إلى مصادرها التاريخية أو النفسية الشاملة، حتى - صار من الواجب على المعاصرين أن يعنوا بهذا الجانب الدراسي على أن يضيفوا إلى التراث النقدي ما يهذبه أو يكمله.
وهذا ما دعاني إلى نشر هذه الفصول في بيان طبيعة الأدب وعناصره وبعض مقاييسه النقدية، لا أدعى بها فتحاً جديداً، ولا سدا لنقص قديم، وكل ما أرجوه أمران: الأول أنها عون على فهم هذه القضايا والآراء النقدية الواردة في كتب النقد العربي فهماً علمياً قائماً على الأصول النفسية والفنية المنظمة. الثاني أنها دعوة إلى الباحثين لتناول النقد الفني بالدرس والتمحيص بجانب النقد التاريخي والشخصي، فإن كان فيها حق فذلك ما حاولت، وإن كان فيها قصور فهو عندي سبيل إلى الحق ودعوة أخرى إلى الصواب يحققه المستمعون إلى دعوتي وندائي.
على أن في هذه الفصول بعد ذلك جوانب نقص ربما كنت أعرف الناس بها، وربما كانت متصلة بفن القصة، والأدب المسرحي».
ولعل الجدلية التي أحاطت بالأدب والنقد في تكلك الحقبة جعلت الشايب يفتتح كتابه بالسؤال الأزلي: ما الأدب؟ ليجيب عنه في صفحات عدة تكشف تفاصيل هذا المصطلح وأبعاده.
وهذا الكتاب صدرت منه عشر طبعات، كان آخرها الطبعة التي صدرت عن مكتبة النهضة المصرية عام 2004م.