د.فوزية أبو خالد
لا أستطيع أن يهل رمضان ويمضي دون أن أكتب عن نهاراته المصبحة على الرجاء وعن لياليه المضاءة بالأمل إلى الدرجة التي لو جمعتُ المقالات التي نشرتها عن الشهر الفضيل عبر عمر كتابتي يمكنني بها أن أصدر كتابا قد يكون بعنوان «الحالة الشعرية لرمضان» أو «قصيدة رمضان» أو «إلهام رمضان الشعري».
على أن من أجمل ما يمكن أن أسمي به مضمون الكتابة عن شهر رمضان هو مسمى «تجديد العهد» ومسمى «متعة إعادة التعلم في رمضان». فشهر رمضان يعيد لنا الطفولة المفقودة التي تتسرب من بين أيدينا وتبتعد شيئا فشيئا عنا طوال عام من الركض على دروب الحياة الصعبة أو الميسرة على حد سواء بما لانكاد فيه ومعه التقاط الأنفاس ناهيك عن الالتفات إلى ذلك الطفل القابع فينا مرتاعا من صوت لهاثنا في النهار وشخيرنا في الليل. فيأتي شهر رمضان بأريحيته والسكينة والطمأنينة والأريحية التي يتميز بها، وإن كنا نقوم أثناء الصيام بتقطيع الصخر، ليخرج ذلك الطفل المرهف من دواخلنا العميقة ويجعلنا نعيش الطفولة من جديد بكل ما فيها من معان سامية نظيفة نقية من الطهر والبراءة والقدرة على التعلم وهي من قدرات الطفولة الفذة. ففي رمضان نجدد العهد بكثير من القيم النبيلة التي تعلمناها في مرحلة نعومة أظافرنا مثل قيمة الزهو والدهشة المتفجرة في الحنايا أثناء القيام بالعبادات، بعد ما قد يعتري القيام بها خلال العام من روتينية وأداء ميكانيكي، وكذلك قيمة الشفافية الطفولية في التعامل مع الآخرين التي كثيرًا ما يغشاها كثير من الضباب والغبار إن لم يكن الصدأ في الأيام العادية. يستعيد لنا رمضان قيمة النفس المرهفة الحساسة التي يتمتع بها الأطفال بشكل تلقائي إبان مرحلة الطفولة فيصير للكلمة الحلوة وقع أمضى في نفوسنا فلا تمر بنا الكلمة الحلوة كالعادة وكأننا لا نسمعها. يستعيد لنا رمضان من طباع الطفولة التلقائية وجمال القدرة على البكاء وجريان الدمع. فهل رأيتم كبارًا نساء ورجالاً يشهقون ويبكون انكسارًا أمام الله في المساجد وأمام الملأ إلا في صلوات التراويح والقيام في شهر رمضان. في شهر رمضان استعيد شخصيا لياقة القدرة على التعلم فأصبح أشد قدرة على حفظ آيات من الذكر الحكيم كانت قد تفلتت مني أثناء العام وكأن رمضان لم يجدد فقط عهدنا بالقرآن الكريم بل جدد خلايا الفكر والعقل على اجتراح مزيد من القدرة على الفهم والحفظ والاستيعاب، كما أصبحُ أكثر توهجا في تعلم أشياء جديدة تحيط بعالمي فمثلا لا يخرج رمضان إلا وقد تعلمتُ معلومات وهويات وأفكار ومهارات ومشاعر جديدة بل «طبخات» لم أجربها من قبل:
في شهر رمضان نجدد العهد في علاقتنا ببارئنا نعيد التفكر في الخلق وفي المعاد وفي أسرار ما بين الكاف والنون، وفي من نحن ولماذا نحن على هذا الأرض وكيف نكون فيها مصدرا من مصادر الحياة وكيف نحياها حياة كريمة. في شهر رمضان نطيل الوقوف بأسماء الله الحسنى نتلذذ بنطقها جهرًا وهمسًا ويصير المجال واسعا والرغبة مشتعلة لتأمل ما في كل اسم من طاقات خلاقة من اسم البديع لاسم العدل الحق الجبار الوهاب الشكور الصبور إلى اسم العليم الحكيم الكبير النور وما بينهما من أسماء ليس لأسرارها منتهى ولا لفعاليتها في حياتنا حد.
في شهر رمضان تتجدد خلايا جسدنا بالصوم فنكتسب من الجوع لياقة الرشاقة ومن الصدقة لياقة العطاء ومن الزكاة لياقة التطهر ومن الصلة الشفيفة بالناس لياقة التراحم وفضيلة الألفة ومن السكينة لياقة التفكير ومن قراءة القرآن لياقة التأمل وإحياء فقه العبادات وفقه المعاملات فليس ينابيع لحلاوة العبادة وللذة التعامل ولسمو القيم كقراءة القرآن التي يزيد تعلق قلوبنا بها خلال هذا الشهر الفضيل أتمه الله علينا في وطني وعلى سائر الصائمين في بلاد الله الواسعة بالرحمة والمغفرة والعتق والسلام.