أحمد المغلوث
عندما كنا صغارًا في عمر الزهور كنا نصوم من خلف «الجصة والزير». وربما الكثير من الأحبة القراء على علم ودراية بالزير. فهو الإناء الفخاري الذي يوضع فيه الماء أو حتى ليكون مكاناً ليحتوي على التمور. أما الجصة فهي تكاد معروفة لدى بعض أبناء المملكة. خاصة المناطق التي يتوفر فيها النخيل وإنتاج مختلف أنواع التمور وعلى الأخص الأحساء ومناطق أخرى بالمملكة. وربما كان للجصة أسماء أخرى تختلف عن اسمها في الأحساء والخليج. والجصة التي تحبها الطفلة «حصة» عبارة عن غرفة ليست بعيدة عن مخزن «المونة» أو مستودع المعيشة في بيوت الأحساء وهي المكان الذي يحفظ فيه «تمر» البيت، حيث تشكِّل «الجصة» جزءاً من الغرفة يكبر حجمها أو يصغر حسب إمكانيات أصحاب البيت، وكلما زاد عدد أفراد الأسرة داخل البيت تطلب ذلك السعة في مساحة «الجصة» وجميعنا يعرف أن بيوتنا في الماضي الجميل تضم أسرة الجد والأبناء وحتى الأحفاد. المهم أن الجصة أشبه ما تكون بدولاب مبني بالحجر الطيني ومكسو بالجص المحروق وتوضع بداخله كمية كبيرة من التمر خاصة «تمر الخلاص» الذي يرتفع عن مستوى أرضية الجصة من خلال وضع أعداد من جريد النخل بصورة متقاطعة أو بصورة «شبكية» وبعد أن تصف كمية التمور يوضع عليها أيضاً مداد وفوق ذلك يرص عليها بعض الأشياء الثقيلة المتوفرة في البيت وهناك من يضع عليها بعض من «قلال» التمر ومع مرور الأيام ينساب عسل التمر «الدبس» من تحت شبكية الجريدة متجهاً عبر قناة طولية في اتجاه فتحة خارجية عادة ما تكون مسدودة بقطعة قماش نظيف وكلما احتاجت ربة البيت كمية من «الدبس» لاستعماله في إعداد أطباقها اليومية الرمضانية التي يعشقها ويشتهيها أفراد أسرتها مثل طبق «المحمر» واللقيمات والكليجة أو الخبز الأحمر. وكما أشرنا فإن أحجام الجصص تختلف من بيت لبيت ولها أكثر من فتحة. والكتابة عن هذه الجصة أعادتني الذاكرة الفاكرة إلى حكاية طريفة عن الطفلة حصة أو حصيصة كما يطيب لأهل البيت مناداتها، فلقد افتقدتها والدتها في ذات يوم من أيام رمضان وكان الجو حارًا، فبحثت عنها في مختلف غرف البيت حتى «حوش» الغنم، حيث كان يطيب لها الذهاب إلى هناك لمشاهدة الدجاج والديوك وحتى الماعز فكانت تسعد وتبتهج وهي تتابعهن وهن يتسابقن داخل هذا الحوش أو هي تلتقط ما يتوفر من بقايا الطعام من أرز أو فتات الخبز أو حتى شعير وكانت تربية الدجاج شائعة ومنتشرة فيما مضى من زمن في الأحساءغيرها ويكاد لا يخلو منها بيت لأنها ممكنة وسهلة، ولأنها عملية اقتصادية توفر غذاءً مفيداً مستمراً من اللحوم والبيض وتستهلك مخلفات المطبخ, وتلتقط طعامها من خشاش الأرض. دارت أم حصة في كل مكان حتى إنها طلعت إلى السطح فربما صعدت إلى هناك لتشاهد طيور «حمام» شقيقها «فهودي» عبثاً بحثت وحاولت فلم تجدها نزلت إلى «حوي» البيت وإذا بنظرها يقع على باب غرفة «الجصة» فتوجهت إليها مسرعة الخطى وما إن فتحت الباب إلا وحصة في نوم عميق بجانب فتحة عسل الدبس وفمها الصغير عليه بقايا من آثار العسل الدبسي. ابتسمت والدتها وحملتها وهي تحتضنها بشغف ولهفة وهي تدعو الله شاكرة أن سلَّمها ولم تذهب إلى غرفة «الجليب»، أما غرفة الجصة ففيها طعام وخير وأمان.. وبركة شهر رمضان.