يستكمل هنا الأستاذ عبدالعزيز القاضي حديثه عن الشيخ عبدالعزيز بن محمد القاضي رحمه الله وبقية الكلام على مؤلفاته..
3 - رحلة الفتيان في مرابع البيان:
طُبع سنة 1410هـ. قال مؤلفه(1): «كتاب (رحلة الفتيان في مرابع البيان) تم تسجيله على الورق في مطلع هذا القرن الخامس عشر الهجري، ولم يتعجل أمره، طباعةً ونشرًا، حتى قُدّر له ذلك مع نهاية العقد الأول من القرن». وقال في التعريف به(2): «وهو - لمن لم يطّلع عليه، في تعريف موجز - كتاب يروي انطلاق فتية من العرب في رحلة ريادة انتجعت مواطن البيان في صحرائه ومضارب أهله، في عصر أصالته، نُجعةً في رحلة يُمسي بها الزمان ويصبح بين مضارب العرب، يسمر معهم الليالي، ويشهد معهم الأيام والوقائع، بين البسوس وحربها، وداحس والغبراء وأيامها، وشعر الخنساء رثاءً في مضاربها.. وما حوته المعلقات، والحماسة، والمفضّليّات، والأغاني، والخزانة، والأمالي.. وغيرها مما حفلت به الرحلة في نجعتها أيام الجاهلية، وأيام البعثة والرسالة والراشدين حتى عصر الأمويين وشعرائه.. نُجعة للفتيان في أرض البيان وفي عصره.. عادوا منها إلى الوطن والعشيرة والمعشر، في صفاء ذهن، وجلاء تدبّر، ورسوخ اعتبار».
قلت: وانطلقت (رحلة الفتيان) هذه عبر جوّابة(3). وقد استطاع المؤلف أن يُقدم فيها معظم درر الشعر الجاهلي، وأبرز أخبار الشعراء، وأيام العرب في الجاهلي والإسلام، وقد يسوق طرفًا من الخبر، حتى إذا بلغ أوجه في الإثارة قطعه عند الفراغ من عرض بعض جوانبه، ليُحيل إلى مصدره لمن يرغب في الاستزادة، وهذا أسلوب فريد في الترغيب في القراءة، وهو تدريب للناشئة وتعليم مشوّق بأسلوب غير مباشر على البحث في المصادر!
والرحلة حوت كثيرًا من الأخبار والأشعار في العصر الجاهلي، وعرضتها بطريقة مشوّقة، تشبه القصة في السرد والعرض، لكنها تخالفها في كون محتواها حقيقة لا خيالاً. وقد قال المؤلف في خاتمتها موضّحًا مخالفتها للقصة:
«لا تستجيب هذه الرحلة إلى موازين ما يسمى بالقصة الأدبية، ولا تضبط فصولها مساقط اعتبارها وعُقدها، ولا تمر بين مباضع أهل النقد بمختلف رياداته ومدارسه. هي رحلة انتجعت مواطن البيان، ومضارب أهله، منطلقة في هذه النُّجعة على محض (السجيّة) ضحوة (العفوية). إنها لا تحتكم إلى تلك الموازين وعُقدها، ومقاييس نقدها، بل إلى أسارير وجه القارئ من شباب الأمة عبر الأجيال متى برقت بالرضا، وتهللت بالترحيب، فذلك حسبُها. إنها نُجعة الفتى العربي، وريادة مناهل أصالته، بيانًا وسجايا، وحسبها الوفاء له من ذلك بالقدر المستطاع...».
ولم تقتصر الرحلة على العرض فقط بل تخللها كثير من اللمحات النقدية، والتوجيهات الفكرية التي أفصحت عن شخصية المؤلف العلمية والأدبية والنقدية.
4 - بصيرة الفتيان بعد رحلة البيان (مخطوط):
وهو - كما ذكر المؤلف في المقدمة - رديف للكتاب السابق (رحلة الفتيان في مرابع البيان)، قال (4): «ولئن كانت (الرحلة) نجعة للبيان في مواطنه وبين مضاربه، وكان البيان ظهوراً وجلاء ووضوحاً في دلالة اللفظ على مقاصده، فإن (البصيرة) بعد (الرحلة) ونجعتها، تدبّرٌ ونُجعة للمعاني في حمى أصالتها، وعند مستقر مقاصدها، حيث لا يجتمع لديها ما هو شتيت، ولا يتفرق ما هو جميع. إن المعاني حركة العقل في النفس. وفي حال الرشد تضيء (البصيرة) فتراها على حقائقها، ناطقةً بها أصولُها، لا تتشابه بها تأويلات من غيٍّ أو سَفَهٍ أو غرور، تُحرّف الكلم عن مواضعه، فتُلبسه غير أثوابه، وتدثره من الأوصاف غير أَكْسِيَتِه، زورًا وبُهتانًا، أو سفهًا وغيًّا، أو جهلاً وغرورًا. عادت البصيرة في بصائر الفتيان بعد رحلة البيان لتجد اضطراب الشأن، وسلطان الغرور والبهتان. تقلّبت بهم (البصيرة) بين مواطن هذا الاضطراب في مجالسه، وفي محافله ومعاقله؛ لترى شيئًا شتيتًا فاجتمع، وما كان جميعا فتفرّق، وما كان غريبًا فاستأنس. وجدت فتنة (الشمول) تجمع المتفرق في معانيه وبين مقاصده في أصول المعاني فتحشره تحت القبة الواحدة الشاملة، تسميةً، ودلالةً، واعتبارًا، وغايةً، وعاقبة.. رأت ما رأت، وسمعت وتدبرت، ثم أزمعت أن تعتصم من هذا الاضطراب وفتنته على نجوة من طود (الرُّشد) لتُبصر في صفاء الرؤية ووضوح الاعتبار آفاق المعاني متميّزةً بحقائقها كما يسميها البيان في أصالته، ويعرفها العقل في رُشده.. لا يجتمع بها المتفرق الذي جمعه الغرور، ولا يتفرق لديها الجميع الذي فرّقه البُهتان. تنقّل الفتية وتقلّبوا في المواطن والمنازل، فكان لهم من صفاء النظر، ونفاذ البصيرة - بعد رحلة الفتيان - ما ينفذ بهم في التدبّر والاعتبار، وما يحصّنهم من الغرور والشدّة والانبهار... أدركوا بطمأنينة التدبر، وثاقب البصيرة، وصفاء الاعتبار، ما طرأ على الزمان من حركة دائبة، وسرعة خاطفة، في محدثات الأمور، وطوارئ الأحوال، وغريب العادات، أسرع من كرّ الليل والنهار. بهذه الطمأنينة المتدبرة، والبصيرة الثاقبة المعتبرة، مضت بهم أيامهم تدبّرًا واعتبارًا، ترويه السطور من (بصيرة الفتيان بعد رحلة البيان)»أ.هـ
وقال عن زمن تأليفه(5): «وهذا الكتاب الرديف بعده(6) هو الآخر بدأت فصوله تخط سطورها الأولى على الورق في شهور السنوات الأولى من العقد الأول(7)».
ثم ذكر أنه بعد الفراغ من تسطيره بفترة قرأ ما يتوافق مع بعض مضمونه، فذكر أن ما كتبه سابق لذلك، لكن كتابه هذا لم يُطبع، قال: «لم تقتبس شعلتها(8) من معاقل أخرى لغيرها، ولم تجمع في حبالها ما احتطبه سواها. وإنما استدعى ذكر ذلك (استدراكًا) هنا لما قد تتضمنه سطور هذه البصيرة - المتقدمة كتابة في الأوراق، متأخرة في الطباعة والنشر - من توارد خاطر، وتشابه تدبّر فيما تقدم لغيرها، طباعةً ونشرًا. ولم أر فيما اتفق لذلك إلا في موضعين، أحدهما في كتاب (العقيدة نبع التربية) تأليف أحمد بن ناصر بن محمد الحمد ص60 وما بعدها. يُثبت فيه بالأدلة أن آدم عليه السلام أول الخلق من البشر، وأن التوحيد والإسلام هو الأصل، وأن الشرك طارئ، ويذكر الأدلة على ذلك... والموضع الآخر في صحيفة الرياض العدد 8391 تاريخ 3 ذي الحجة 1411هـ، مقال عن ديانة العرب في الجاهلية، يبيّن أن العرب في الجاهلية لم يكونوا بلا دين، بل كانوا يعرفون الله... وفي (البصيرة) ذكر لذلك وتدبر في مواضع. هذا ما رأيته فأشرت إليه، وما وقع سوى ذلك مما لم أطّلع عليه فهو بمعناه». ثم ذكر أنه كتب هذه المقدمة «في أوائل العقد الثاني من هذا القرن» الخامس عشر الهجري.
و(بصيرة الفتيان) تتمة لـ(رحلة الفتيان)، وأبطالها هم أنفسهم أبطال الرحلة، لكن الزمن الذي تدور فيه أحداث البصيرة هو العصر الحاضر بحضارته الشاملة، ومكتسباته المادية. واستبدلوا بجوابتهم الأرضية - في تنقلاتهم - جوّابةً سماوية (طائرة). وكانوا يحضرون المجالس والأندية، ويقرؤون الصحف والمنشورات المطبوعة، ويسمعون من غرائب الأحاديث واللغة، و»من مجهول القول المؤتلف والمختلف، وكانوا خلال ذلك آذانًا مُرهفة، وأبصارًا مطلقة، تعقلها (بصائر) غذتها الصحراء ثباتَ الجأش، وفطرة الإباء». ثم بدأت أحداث (بصيرة الفتيان بعد رحلة البيان) بالحديث عن مصطلح (حضارة الإسلام) الذي سمعوه «في منتدى حضروه، أضيئت له الأنوار، واحتشدت فيه الجموع تصغي إلى من حدّثها مليًّا فيما يجب وما ينبغي». ثم «بعد المحفل كان للفتية ندوة مع الأحبة والأتراب، وآخرين من صحب ورفاق. وكانت خطبة الحفل الذي انصرفوا منه محور الحديث، تتقاذف ألسنتهم فيه لفظ (الحضارة). في مساجلة الرأي أدرك الفتية منه كيف احتنك هذا اللفظ المعاني على مدى الطول والعرض من أرض العرب، فأصبح واسطة العقد عن كل حديث أو حوار منسوب إلى ماضٍ يُذكر، أو حاضر يُشهر!». ثم يذكر المؤلف -على لسان أحد الفتية - تعجّبه من دوران مصطلح (الحضارة) على أفواه رفاقه منسوبًا إلى الأمم (حضارة الإغريق - حضارة الرومان - حضارة الفرس - حضارة الفراعنة - حضارة الهند - حضارة الصين...) حتى إذا بلغ العدّ تمامه جاء الربط إلى الدين إلى (الإسلام)! ثم يتساءل عن هذا اللفظ (الحضارة) الذي فغرت له أفواههم، وامتلأت به أشداقهم: «أين هو لفظًا في كتاب الله، أو في سنة رسوله، أو على ألسنة خلفائه وصحبه؟ ثم تستمر هذه المناقشة الفكرية اللغوية على هذا المنوال». وهكذا تجري أحداث (بصيرة الفتيان بعد رحلة البيان) في تأملات ومناقشات ومقارنات عمادها (اللغة) و(الدين).
كتبها بتنسيق مع أبناء المترجم له
عبدالعزيز بن حمد بن إبراهيم القاضي
وراجعها وصحّحها: تميم بن عبدالعزيز بن محمد القاضي (ابن المترجم له)
... ... ... ... ...
الهوامش:
(1) مقدمة كتابه الآخر الذي وصفه بأنه (الرديف) لرحلة البيان، وهو (بصيرة الفتيان بعد رحلة البيان) ص3. وسنعرضه بإيجاز في الفقرة القادمة من (مؤلفاته).
(2) كتبه في حاشية الصفحة الأولى من مقدمة (بصيرة الفتيان بعد رحلة البيان).
(3) الجوّابة: وسيلة تنقّل تجوب الفيافي وتقطع البيد، وهي وسيلة غير محددة، لكنها صالحة لهذه المهمة، قادرة على السير في الصحراء، رمالها وجبالها وسهوبها وأوديتها. وفي مقدمة كتابه الآخر (بصيرة الفتيان) قال: «طوت بالفتيان جوّابتهم على الصحراء آفاق الزمن، وقلّبت على (هدير محركها) صفحات العصور». وهذا يدل على أن (الجوّابة) المذكورة إنما هي سيارة.
(4) مقدمة (بصيرة الفتيان بعد رحلة البيان) ص2.
(5) مقدمة (بصيرة الفتيان بعد رحلة البيان) ص4.
(6) أي بعد (رحلة الفتيان في مرابع البيان).
(7) يقصد من القرن الخامس عشر الهجري.
(8) يقصد (بصيرة الفتيان).