د. محمد بن صقر
هل مجتمعاتنا العربية تقوم على ردة الفعل غير المدروسة في جميع مساراتها الحياتية والاقتصادية والسياسة والاجتماعية، أم نحن مجتمعات تؤمن وتعمل بالتفكير الإستراتيجي والتخطيط المرتبط بالكياسة والأناة، وتقوم على الاستشراف والتنبؤ، وبالتالي تكون ردة الفعل بالنسبة إلينا مدروسة ومحسوبة التكاليف ضمن سيناريوهات محتملة؟ وهل لدينا قصص نجاح وممارسات عالمية ومدارس خاصة لنا في اتخاذ القرارات؟
هذا التساؤل يقودنا إلى معرفة وتحليل الممارسات التي تقوم بها مجتمعاتنا، سواء على الصعيد الدولي أو الإقليمي، أو حتى على المستوى المحلي والمؤسسي أو الجماهيري، أو بشكل فردي من خلال مستوى التصاريح الشخصية والتحليلات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعجّ بها بعض وسائل التواصل الاجتماعي والصحف.
إن هذه المسائل من وجهة نظري لها شقّان تتمثل: في التنبؤ واستشراف المستقبل.
فبالرجوع إلى تاريخنا للاستفادة ولمعرفة ما كتبه مفكرو أمتنا العربية حول مسار التنبؤ واستكشاف المستقبل، نجد مثلاً المفكر العربي صاحب العقلية الفريدة، مؤسس علم الاجتماع الإنساني والعمراني، قد اتخذ منهجًا علميًا يؤسس عليه، وهو الوقوف على أحوال ما قبله من الأيام والأجيال وما بعده.
فالوقوف على أحوال الأيام القادمة هو استشراف علمي مبني على علم وعلى أصول، وليس أوهامًا أو أساطير، وكما أن الحاضر أشبه بالماضي، فالماء هو الماء وأن اختلفت أوعية الشرب والسنن هي السنن وأن اختلفت أدواتها.
فمتى ما اتخذنا أسلوب الاستشراف من حيث المنهج والتوقعات وبناء السيناريوهات المتوقعة وغير المتوقعة، سيحتم علينا بناء إستراتيجية بناء ردة الفعل، إذن نستنج من ذلك أن استشراف المستقبل مفهوم جوهري لا بد من ممارسته -وبمنهجية علمية- لنستطيع التحكم في ردة الفعل، فما إن يكون هناك حدث معين حتى تكون هناك ردة فعل.
وهنا، علينا أن نتوقف أمام ردة الفعل هذه بوضع تساؤلات عدة ليتم الانتقال من مرحلة الفكر الذي يميل أصحابه إلى الركون للوضع الحاضر، وعدم القيام بأي إجراءات احترازية طالما أن كل شيء مستقر في نظرهم، وهذا الأمر -لا محالة- يجعل احتمال وقوع غير المتوقع والمسبب للارتباك وربما الكوارث، عاليًا جدًا، ولا يتم عمل الإجراءات الاحترازية إلا بعد حدوث الأمر الجلل، بينما الفكر الاحترازي المبني على التخطيط بمفهومه الشامل يعمل على استشراف الأخطار، وتحديد بعض العناصر الأساسية التي تسهم في رسم سياسة ردة الفعل، منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: ما الفعل المتوقع؟ ومن الذي يصنع الفعل؟ ولماذا صنع هذا الفعل؟ ومن جمهور هذا الفعل؟ وما المتوقع أن تكون ردة الفعل؟ وما غير المتوقع في ردة الفعل؟ ومتى تكون ردة الفعل وكيف؟.
ونضيف عليها تساؤلات أخرى تكون بمثابة تساؤلات احترازية، لعدم الوقوع في الخطأ الأكبر «والذي يعني غير المتوقع والمسبب للارتباك».
فضمن هذه الأسئلة: ما تكلفة ردة الفعل الذي نقوم به وقوتها وتأثيرها؟، وهل نجعلها في سياق ردة فعل أو فعل آخر؟ فصنع إستراتيجية العمل وردة الفعل لا بد أن تتبعه إستراتيجية قياس ردة الفعل، وهذا الأمر ليس سهلاً، فردة فعل الجماهير تختلف عن ردة فعل النخب والمثقفين والسياسيين والعلماء، وأيضًا اختلاف تأثير ردة الفعل يختلف باختلاف قوة التأثير، فقد تكون ردة فعل جماهير على مباراة كرة قدم تؤدي إلى حرب مثل هندوراس والسلفادور. ففي تصفيات بطولة كأس العالم لكرة القدم 1970 وقع البلدان في مواجهة حاسمة، لتحديد الفريق الذي سيتأهل إلى المرحلة النهائية المقامة على ملاعب المكسيك، وفي المباراة الأولى فازت هندوراس على ملعبها، واعتدت الجماهير الهندوراسية على الجماهير الفقيرة من أنصار السلفادور.
وتطورت الأمور إلى مهاجمة الأحياء التي يقيم فيها سلفادوريون، مما دفع السلفادوريين إلى الفرار إلى بلادهم تاركين ممتلكاتهم وبيوتهم، وقدمت السلفادور شكوى للأمم المتحدة وهيئة حقوق الإنسان. وبعد أسبوع واحد فازت السلفادور في ملعبها ونال أنصار هندوراس نصيبهم من الاعتداءات.
هذه الحرب، وإن كانت هناك أسباب اقتصادية وسياسية تراكمية كانت هي المحرك الأساسي لها، إلا أن ردة الفعل لم تكن متوقعة، لأنه لم يكن هناك تخطيط إستراتيجي لتصورات ردة الفعل التي جعلت الجماهير تؤثر على السياسيين.
ففي أي مجتمع لا بد أن نعلم مَن المؤثرين، ونصنع الفعل وردة الفعل خلالهم، لنحقق الهدف الذي نريده عن طريق ردة الفعل المدروسة.