عبدالرحمن الحبيب
إذا كان الصحفيون هم أول من يحاصر السوق بـ»المسودة الأولى للتاريخ» حسب عبارة انتشرت أوائل الستينيات في أمريكا، صاغها فيليب جراهام (صحيفة واشنطن بوست)، فإنه منذ رئاسة جورج بوش استجمع المؤرخون والأكاديميون المتخصصون قواهم بمحاولة لاستعادة أرضهم من الصحفيين، حين بدأت جامعة برينستون بنشر سلسلة كتب تقدم «تقييماً تاريخياً أولياً» للرؤساء الأمريكيين، يحررها البروفيسور بالجامعة والمؤرخ السياسي المشهور جوليان زيليزر.
قد يبدو أنه من المبكر إجراء تقييم تاريخي لفترة رئاسة بالكاد مضى عليها سنتان، سواء من ناحية الحكم على آثار الأحداث أو من ناحية التحيزات البشرية التي تحتاج وقتاً لتخف حدتها، إلا أن سرعة تطورات الزمن المعاصر جعلت «الحاضر يصبح ماضياً بسرعة أكبر من أي وقت مضى»، على حد تعبير المؤرخ الأمريكي آرثر شليزنجر (1967م) الذي يرى أن كتابة التاريخ المعاصر ليست مقبولة فحسب بل لا غنى عنها.
شليزنجر وصف الستينيات بأنه «عصر السرعة الفائقة»، فما عسانا نقول عن زمننا الراهن؟ لذا فإن الأب المؤسس لمدرسة التاريخ الحولية مارك بلوخ، يحث زملاءه الممارسين لكتابة التاريخ على أن يكونوا أكثر من مجرد «خبراء آثار نافعين... فملكة فهم الأحياء هي الصفة الرئيسية للمؤرخ» (نايك براينت، فورين بولسي).
بعد بوش وأوباما، جاء الدور على ترامب، حيث قام زيليزر بتحرير كتاب بعنوان «رئاسة دونالد ج. ترامب: تقييم تاريخي أولي» (The Presidency of Donald J. Trump: A First Historical Assessment) عبر مقالات كتبها مجموعة من المؤرخين والأكاديميين بهدف كما جاء بالمقدمة: «على عكس عمل الصحفيين والكتاب الذين ينصب تركيزهم على سرد الأحداث التي تجري وراء الكواليس والأحداث اليومية التي تستهلك أي بيت أبيض - مثل كتاب «نار وغضب « اللحظة، كما أسماها الصحفي مايكل وولف - هذه المقالات تدور حول وضع الأحداث في منظور «طويل الأمد» لوضع الأحداث المعاصرة في سياقها التاريخي..
يوضح زيليزر أن هؤلاء المؤرخين قدموا وجهة نظرهم عبر تقييمات متوازنة للقضايا الرئيسية التي شكلت رئاسة ترامب خلال سنواته الأربع المضطربة في البيت الأبيض، كمسودة أولى للتاريخ من خلال تقديم منظور نحتاجه لواحدة من أكثر الرئاسات إثارة للجدل وللانقسام بتاريخ الولايات المتحدة؛ حيث يكشف الكتاب كيف أن ترامب لم يكن سبب الانقسامات السياسية التي حددت فترة ولايته، بل كان نتاجًا لاتجاهات طويلة المدى بالسياسة الجمهورية والاستقطاب الأمريكي على نطاق أوسع.
في مقالته الافتتاحية يذكر زيليزر أن ترامب ليس غريب الأطوار أو منفصلاً عن الواقع أو منحرفاً، ويقول إنه «على الرغم من وصفه كثيرًا بأنه ذئب وحيد، يجب أن يُنظر إلى ترامب بدلاً من ذلك على أنه مركز المحافظة في العصر الحالي». يضم الكتاب 19 مقالة كتبها 18 مؤرخًا مختلفًا لمواضيع شتى محلية وخارجية، مثل علاقة إدارته بوسائل الإعلام، وسياسة الهجرة، والحركة النسوية، وطريقة استجابته لجائحة كورونا، والجدار الحدودي، والتوترات المتزايدة مع الصين ومع حلفاء الناتو، والقومية البيضاء في عصر «حياة السود مهمة»، وازدهار قطاع التكنولوجيا الفائقة.. إلخ.
البداية كانت مقابلة مع دونالد ترامب، أما في الكتابين السابقين من السلسلة فلم يقبل بوش ولا أوباما دعوة زيليزر لتقييم رئاستهما؛ بينما تطوع ترامب بنفسه للمشاركة في المشروع وتباهى بسجله، وامتدح المشروع لكن بعدها بأيام انتقده بشدة وبأقسى العبارات عندما علم ما فيه من نقد لإدارته..
في العلاقات الخارجية وصف جيمس مان نهج ترامب تجاه الصين، بأنه يجسد النهج الشخصي لرجل الأعمال السابق للشؤون الدولية، معتقداً أن جاذبيته الفردية يمكن أن تلغي المصلحة الوطنية الخاصة للشركاء المتفاوضين.. يقول «كان ترامب يسعى إلى أن يفعل مع الصين ما حاول فعله أيضًا مع كوريا الشمالية، لمحاولة حل المشاكل المعقدة التي طال أمدها عن طريق إقناع الزعيم الأعلى لدولة أخرى بطريقة ما بعكس المسار من خلال الاتصال الشخصي مع ترامب نفسه».
في تلخيص لإرث ترامب بالشرق الأوسط، سلط دانيال كيرتزر الضوء على نرجسية الرئيس: لقد كان «ترامب أولاً» أكثر من «أمريكا أولاً»، واستند إلى «علامة تجارية معينة من المعاملات، مدفوعة بتأمين انتصارات قصيرة الأجل.. على حساب إستراتيجية طويلة الأجل». وفي الحدود مع المكسيك، كتب ماي نجاي أنه رغم كل صخب ترامب حول بناء سور عظيم على طول الحدود الجنوبية وإجبار المكسيك لدفع الفاتورة، فقد تم بناء 15 ميلاً فقط من الحاجز الخرساني الأساسي الجديد بحلول الوقت الذي غادر فيه منصبه.
بشكل عام، كانت مقالات الكتاب شديدة الانتقاد، خلاصتها أن تأثير ترامب أدى إلى إعادة تشكيل السياسة الأمريكية من خلال ضرب السياسة الوسطية المقبولة وتدمير التقاليد والأعراف المعتدلة ودعم صعود اليمين الأمريكي المتطرف والفاشي. ولا يبدو أن ثمة إضافات جديدة للنقد الذي تعرض له ترامب في الإعلام الأمريكي حسب تقييم نايك براينت مؤلف كتاب «عندما توقفت أمريكا عن كونها عظيمة: تاريخ الحاضر»، ورغم ذلك فإن براينت يثني على الكتاب لأنه ساعد على فهم أفضل لما وصفه بـ»الرئاسة الأكثر جنوناً وجموحاً في حياتنا». أما أجواء الكتاب ورأي المحرر فيه فسيكون لها وقفة أخرى..