محمد سليمان العنقري
لا شيء يشغل الأسواق بالعالم أكثر من الطرق التي سيتم من خلالها معالجة التضخّم المفرط الذي ضرب الاقتصاد العالمي وفي أكبر الدول تحديداً مثل أميركا التي سجّل فيها رقماً مرتفعاً عند 8.5 بالمائة والذي لم تشاهده منذ حوالي 50 عاماً فيما كانت الأرقام في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا قريبة من المستويات في أميركا بينما تجاوز 15 بالمائة في روسيا والتي أصبح اقتصادها متابعاً بشكل مكثف من الإعلام الغربي لمعرفة مدى تأثير العقوبات التي فرضت على موسكو من قبل أميركا وحلفائها الأوروبيين وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا بعد غزوها لأوكرانيا قبل حوالي شهرين، فالاحتمالات لتداعيات هذا التضخم بدأت تأخذ في غالبيتها طابع السيناريوهات السلبية جداً لاحتمال حدوث ركود تضخمي بالاقتصاد الأمريكي وغيره من الدول الكبرى في تأثيرها على الاقتصاد العالمي.
فالتضخم -والذي له أكثر من تعريف إلا أن السائد بأنه الارتفاع المستمر بالأسعار - أصبح مؤرِّقاً وهو ما عبر عنه الرئيس التنفيذي لأكبر بنك أمريكي «جي بي مورغان»، جيمي ديمون، حيث حذَّر من تزايد خطر سقوط الاقتصاد الأمريكي بالصدفة في دوامة الركود، في الوقت الذي يكافح فيه بنك الاحتياط الفيدرالي التضخّم، فالعوامل التي زادت من تسارع معدلات التضخّم بالعالم وباتت ضاغطة على نمو الاقتصاد العالمي وتهدد بتوقف رحلة نموه بدأت من الإقفالات التي حدثت منذ تفشي فايروس كورونا عام 2020 وأثر ذلك حتى وقتنا الحالي على سلاسل الإمداد بكافة السلع والمنتجات يُضاف لذلك الحرب الروسية الأوكرانية التي أضافت المزيد من الارتفاعات لأسعار الطاقة والغذاء فهما دولتان من أكبر المصدرين للسلع الغذائية الأساسية إضافة إلى أن روسيا من أكبر مصدري الطاقة، حيث بدأت بعض الدول الغربية تحد من وارداتها من النفط والغاز من روسيا، ويُضاف لذلك أيضاً في أميركا تحديداً التوجهات التي بدأ الفيدرالي يتخذها لمواجهة التضخم من رفع لأسعار الفائدة وإيقاف لبرنامج التيسير الكمي مما يعني أن تباطؤ النمو الاقتصادي لأمريكا بات شبه مؤكد بينما زادت احتمالات حدوث ركود في الربع الأخير من هذا العام.
فمناعة الاقتصاد العالمي باتت في خطر وتواجه ضعفاً مع ارتفاع التضخم، إذ إن الوقوع بركود مستقبلاً لن يكون الخروج منه سهلاً لأن الكثير من ذخيرة البنوك المركزية بالاقتصادات الكبرى استنفذت بالأزمات المتلاحقة منذ سنوات وارتفعت الديون السيادية وأصبحت تلك الدول تواجه معضلة المحافظة على القوة الشرائية للمستهلك بمعالجة التضخّم عبر رفع أسعار الفائدة والسياسات المكملة وبنفس الوقت تريد الحفاظ على استمرار النمو وهي معادلة ليس من السهل نجاحها لأن التضخّم أصبح مفرطاً وتغذيه عدة أزمات كبرى في وقت واحد، لكن ما لفت الأنظار في موجة التضخّم الحالية هو غياب القراءة الصحيحة لطبيعته من البنك الفيدرالي الأمريكي الذي اعتاد المراقبون على دقة توقعاته واستباقه غالباً لتوجهات الاقتصاد الأمريكي المستقبلية، حيث كان يتخذ الإجراء المناسب في جل الأزمات السابقة إلا أن رئيسه كان يردد دائماً في العام الماضي بأن التضخّم عابر حتى غير رأيه في نهاية العام 2021 واعترف بأن التضخّم يبدو أنه ليس عابراً وسيطول مكوثه ولذلك يعتقد الكثير من محلِّلي الأسواق في أمريكا بأنه تأخر كثيراً في المعالجة الاستباقية للتضخم، إذ يرون أنه كان من الضروري أن يرفع أسعار الفائدة في العام الماضي على الأقل في الربع الأخير منه بالإضافة لتسريع سحب التيسير الكمي والتوضيح بخصوص توجهات الفيدرالي لحجم ميزانيته وخططه لتخفيضها، أما على الصعيد الدولي فالتحذيرات زادت من احتمال حدوث أزمات في الدول منخفضة الدخل بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية وعدم القدرة على توفيرها بينما حذَّرت مدير صندوق النقد الدولي من آثار التضخّم على تلك الدول كما تتوقع تراجعاً بنمو الاقتصاد العالمي، فالعالم الذي كافح جائحة كورونا وبالكاد احتوى تداعياتها يبدو عاجزاً عن معالجة الملفات السياسية المتفجرة وأهمها الحرب الروسية الأوكرانية ولا تبدو الخطوات المتخذة لإيقاف هذه الحرب فعَّالة، إذ إنها تزيد من احتمالات ارتفاع التضخّم وإمكانية وقوع ركود بالعديد من دول العالم خصوصاً الاقتصادات الكبرى في أوروبا وأمريكا.
لعل العام الحالي يمثِّل أكبر اختبار للعالم في كيفية معالجة أزماته التي لم تتوقف منذ الأزمة المالية عام 2008 حتى وقتنا الحاضر، فالنتائج المترتبة على عدم كبح التضخّم والحفاظ على نمو الاقتصاد العالمي ونزع فتيل الأزمات الجيوسياسية سيؤدي لمزيد من الاضطراب الدولي وعدم الاستقرار في الدول الفقيرة وبداية تحولات سريعة في مراكز القوى الاقتصادية الدولية وزيادة في إفلاس الشركات وارتفاع بنسب البطالة بالاقتصادات الأكثر تضرراً مع ارتفاع بفاتورة برامج الحماية الاجتماعية بالإضافة لتراجعات حادة متوقّعة بأسواق المال في أمريكا وأوروبا على وجه الخصوص كردة فعل للسياسات النقدية المتشددة وهجرة الاستثمارات مستقبلاً للاقتصادات الصاعدة التي لديها مديونيات منخفضة قياساً بناتجها الإجمالي واحتياطيات مالية كبيرة وفائض محتمل بميزانياتها وثروات طبيعية سيزداد الطلب عليها مستقبلاً.