د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
إن دفع المتعلمين للتعلّم العميق يلزم الوصول بهم إلى منصات الثقافة والجمال والتفكر الذكي، ولا بدّ أن تحيط ذلك الجودة والمواصفات العالية, فالبيئات التعليمية ليست طارئة التكوين؛ وليست مخرجاتها من قبيل الصدف؛ فتأسيس الثقافة الشاملة في عقول المتعلمين وصقلها يُولدُ في البيئات التعليمية إشراقات ومغامرات جذابة وثقافة غزيرة ممتدة، وهناك حزمة من تلك المغامرات داخل البيئات التعليمية لو تم التعاطي معها تحوّل المتعلمون من خلالها إلى مثقفين وشغوفين وملهمين, وارتفعتْ لديهم الذائقة والخيال الخصب، يتصدّرها أن تعبّر البيئات في تصاميمها عن ثقافة المكان وأهله, لأن الانتماء وقود للوجدان ومحفز للعقل, وأن يكون الأداء المبدع وأدواته من الأساسات الملزمة في كل بيئة دون استثناء, وأن تفيض النصوص القرائية بالخيال الخصيب، وأن تتضمن المهام التنظيمية ما يطوِّر البيئة الثقافية ومنظومة استخلاص التوجه نحو الثقافات المختلفة، وأن لا تكون التنظيمات عبئاً على مسيرة الثقافة بمفهومها الواسع؛ وأن تُفضي تلك التنظيمات إلى صحو الأمكنة وتصحيح واقع المعرفة الثقافية المدمجة، ودعمها لتكون منارات إنتاج نوعية في منصات المتعلمين، وأحسبُ أن انغراس القائمين على البيئات التعليمية في معطيات الثقافة سوف يفضي بإذن الله وتوفيقه إلى قوة النتائج وجودتها كما يحقق تطوير الثقافة العامة الشاملة فعندما يؤمن القائمون على التعليم بأفقية الثقافة وتغذيتها من الأطراف فستكون غزاراً ثرّة، ولو تشجعنا أن تنشئ كل منشأة تعليمية صحيفتها أو نافذتها الإلكترونية، وأن يتاح لكل متعلم أن يؤلف كتابه؛ بمعنى أن تتخلص البيئات التعليمية من قبضة الخطابات المقفلة المحصنة التي يُتعامل معها بقدسية عند المُطلين من صياصيهم! ولأن الواقع الرقمي أفرز شباباً يطرحون مشروعاتهم في التأليف على الشبكة العنكبوتية بتلقائية مقبولة في أحيان كثيرة ومن ثم يدعون القراء إلى إبداء الرأي والمشاركة فإذا هم ناشرون إضافة إلى صناعة التأليف! ولأن ميادين الشباب في جلِّها بيئات مادية تعليمية، فحبذا أن يحتفي التعليم بأولئك المؤلفين الناشرين، وأن تقوم المرجعيات التعليمية المباشرة بتقديمهم لمجتمعاتهم أبطال ثقافة وصناع فكر ثقافي جديد، ونعلم يقيناً أنه تراجعت تقاليد كثيرة في صناعة الثقافة وفي التعامل مع مصادرها، وفي مواصفات القائمين عليها إنتاجاً وتصديراً؛ فيسهل الآن الولوج إلى صناعة الثقاة من الأطراف؛ فلم تعد بتلك الوعورة فيمكن أن يسهم الجميع في إنتاج الثقافة، وتبقى البيئات التعليمية مشغلاً ممتازاً منتجاً للثقافة الفردية ذات التأثير المباشر والتفاعل الأقرب!
ومن مقومات البيئات التعليمية الثقافية أن لا يكون التأليف مقتصراً على النخب الثقافية، وأن يُمكّن من لديه الميل للكتابة والتأليف من منسوبي المنشأة التعليمية وأن يتخلصوا بسهولة من سطوة الناشرين ومن ثم سطوة القراء التقليدين، وأن تتشكل بيئات ثقافية فردية وجماعية داخل المنشآت التعليمية وأن توجه المقدرات العقلية البشرية توجيهاً حكيماً ومحكماً؛ فمن الحذق والسبق أن لا ندعو لصناعة السفينة بجمع الأخشاب ونحدد للصنّاع مهام العمل فقط؛ بل يجب أن نلهمهم كيف يشتاقون لرؤية نهاية البحر, والمرافئ الجديدة؛ ولعلنا من هذا الحراك وذاك نصيد محارات الدواء لنصلح فضاءات المتعلمين الذين ما زالت أرواحهم تنبض بوافر من قراءات وامتلاءات!
وأختم أن من محفزات البيئات التعليمية الجاذبة دفع أفرادها للبث الفكري المتوازن بفنونه وأشكاله المختلفة حيث يرقى بالعقول والأفئدة, ويستنبت ثقافة مجزية في منظومة العمل لتغليب قوانين المشاركة والشفافية والعدالة وتمكين المتعلمين لتحقيق متطلبات البيئات التعليمية الجاذبة من خلال بث الثقافة المتنوعة وصناعتها وتأصيلها والوصول إلى صناعة متطلبات الوعي العميق في الحياة! فنحن حقيقة نحتاج إلى إعادة بناء تصورنا نحو مستقبل ثقافة الأجيال فالنظر إليها من خلال الأنساق القائمة لن يحصد النتائج المتوخاة ما دام التلقي المعرفي المتخصص في وزارة والتلقي الثقافي في أخرى وفي الأولى ملزم حددته السياسات والثانية وفق المتاح وعادة ما يرتاده النخبة من المثقفين وذوي الشغف،فلا بد من استحداث أدوات أخرى للاستحواذ على ما هو ضروري للاندماج في واقع الأجيال التي على مقاعد الدراسة في التعليم العام والعالي ومثلما أن تحقيق المعرفة متطلب رسمي في المؤسسات التعليمية وفق محددات لاجتياز طريق الوصول للحياة نأمل أن نجد الثقافة الموسوعية الشاملة ضمن متطلبات الوصول والاجتياز في المؤسسات التعليمية.