حسن اليمني
في مساء أحد الأيام حين كنت مضطراً للتسوّق في أحد أسواق الرياض المفتوحة بعد غياب طويل جدًا عن الأسواق لأتفاجأ بانتشار البسطات على جانب الرصيف الفاصل بين المحلات التجارية ومواقف السيارات, يقف خلف هذه البسطات مواطنون من بلادي أو هكذا بدا لي في النظرة الأولى وقبل أن تكشف لي إحدى فتيات بلادي عن وجود مزاحمة أجنبية متسترة باللبس الوطني.
تملّكني الفضول والرغبة في سبر عمق هذا المرأى، فالفتاة التي أمامي تمتلك من اللباقة والأدب والحشمة والرقي في الفهم والإدراك ما يختلف عن ما يتطابق والصورة الذهنية المترسبة في وعيي وذهني, أدركت الفتاة ذلك وابتسمت قائلة: لا تستغرب فأنا أحمل الشهادة الجامعية في المحاسبة، وقد كنت موظفة في إحدى الشركات براتب جيّد, سألتها بتطفّل عفوي: كم؟ قالت أكثر من سبعة آلاف ريال وحتى أختي التي تقف بجانبي هنا هي أيضاً مثلي تحمل الشهادة الجامعية وكانت موظفة مثلي...
وبعد أن مدّت لي بيد كريمة فنجال قهوة وهي تقول: لا عليك هذا مجرد تقدير لوقوفك واهتمامك ثم قدمت لي بعض الحلوى من بين ما تعرضه سألتها إن كان ذلك من صنعها فأجابت نعم وكل ما تراه هنا هو من صنعي وأختي, بطبيعة الحال وكأبناء بلد واحد ومجتمع واحد يعرف بعضه بعضاً عرفت أني أقف أمام بنت عائلة كريمة وأكبرت خيارها وجرأتها النبيلة في التجارة والاستثمار، فانتقل الحديث إلى المعوقات والصعوبات التي تواجهها في هذا الخيار فأجابت: إن المعوقات والصعوبات تبدأ من اثنين, الأول هو تدخلات البلدية التي تسعى للتنظيم والحماية والحفاظ على التاجر والمستهلك والثاني حيل الوافدين في المزاحمة والتنافس غير المتكافئ.
الحالة هذه مضى عليها زمن وقد كتبت عنها مقالاً في هذه الجريدة اجتهدت أن أضع فيه مُجمل ما يفيد ولكن استمرت البلدية في إنشاء مكان خاص لأصحاب البسطات داخل محلات في جزء من السوق فعزلتهم بهذه الخصوصية ليأتي آخرون ببسطاتهم في محل السابقين ومن يدري فقد تعزلهم البلدية في محلات معزولة ليأتي آخرون وهكذا, لم يكن هذا هو الحل وليس هكذا تحل أنشطة البسطات فهي على مسماها بسط في الفراغات كنشاط رديف للنشاطات الأساسية التي يُختص بها التنظيم وإلى آخره, ولا يعني هذا أن تترك البسط بلا تنظيم أو ترتيب أو مراقبة لكن يفترض أن لا يلغي نوعيتها وتميزها.
هذه الحالة تطرح سؤالين مهمين, الأول هو إن كنّا اكتفينا في الوظائف من المواطنين المؤهلين فما حقيقة البطالة التي تظهر في الإحصاءات العامة بصرف النظر عن نسبتها؟
السؤال الثاني ويتعلّق بالسؤال الأول في أنه إذا كنا لا نزال في حاجة لأبناء الوطن للعمل في الوظائف التي تتوفر بشكل فائض فلماذا نملأ هذا الفائض باستقدام الموظفين من بلدان أخرى بدلاً عن أبناء البلد, وإذا لم يكن هذا صحيح فلماذا يستقر الوافد في وظيفته ويلجأ ابن الوطن للبحث عن سد رمقه بالعمل في بسطة أو مهنة يدوية, الأمثلة كثيرة، فهناك طبيب الأسنان السعودي الذي ترك الوظيفة وعمل في غير تخصصه وتلك التي تحمل شهادة في الهندسة النووية وتتجه للعمل في بسطة لبيع القهوة والشاي؟
وللوجع يئن سؤال عارض في غاية التبجيل والتضخيم لمثل هذه الانكسارات واعتبارها إيجابية بدلاً من التوقف وقراءتها ودراستها بعمق وتدبر؟
أي مهنة مهما كانت طالما هي في إطار المشروع من الأعمال فهي لا تعيب ولكن المعيب حقاً هو أن نقلب المنطق الوطني.
المنطق الوطني هو أن تكون الوظائف لأبناء البلد والمهن للوافدين وهذا مشهود في كل الدول بما في ذلك أوروبا وأمريكا, والمنطق الوطني هو إن كان أبناؤنا غير مؤهلين لهذه الوظائف فالأحق أن نؤهلهم لا أن نأتي بشبه المؤهلين نيابة عنهم, والمنطق الوطني أيضاً إن كنّا نستعين بالوافدين لغرض ملء الفراغ لفترة انتقالية نهيئ خلالها ابن الوطن فعلينا أن نحدد هذه الفترة ونجدول تقدمها ومراحلها, ثم إن المنطق الوطني هو أن يكون إيراد الوظيفة للموظف الوطني أكثر منه للوافد باستثناء ذوي التميّز العبقري النادر.
وأخيرًا لا بد من الاعتراف بأن عمليات التوظيف أصبحت أفضل بكثير من السابق وأن الشركات والمؤسسات الاستثمارية الوافدة قد حققت فعلاً نسبة سعودة في وظائفها وتقدِّم الرواتب المناسبة لهم بأفضل من تلك المؤسسات والشركات الوطنية التي لا زالت تعيش في جدول الماضي, وما دمنا نتحدث في المنطق الوطني فإن المواطن حين يتجه للأعمال الحرة والتجارة الصغيرة يتحتم علينا بواجب المنطق الوطني أن نعينه ونساعده بدلاً من التفنن في مضايقته والتضييق عليه بنظم تخنقه بالغرامات والمخالفات والرسوم والأمر هنا ليس بإلغاء الغرامات والمخالفات والرسوم، لا أبداً ولكن بتفعيل ضبطية حق الاعتراض والتقاضي بعدل وإنصاف منحاز لصاحب المهنة أو التجارة ضد الجهة الحكومية الذي يطبّق فيها الموظف الشروط والقوانين دون التفات للخلفيات والاحتمالات, بمعنى انحياز للمواطن على الشروط والضوابط بما لا يتجاوز الضرر بالحق العام, ومثال ذلك مواطن أو مواطنة في النشاط الغذائي قهوة أو شاي كانت أو أغذية منتجة في البيت وأن هذا يشترط شهادة صحية فإن انتهاء سريان الشهادة ليس من العدل مصادرة البضاعة أو قفل المحل أو البسطة ولكن يمكن مراعاة ذلك من خلال إتاحة فترة زمنية بموجب إنذار لتجديد الشهادة, والأمر كذلك للمواطن أو المواطنة الذي يعرض فواكه أو خضاراً في مركبته فليس من العدل مصادرتها وهي رأسماله وإنما يمكن توجيهه لأماكن أخرى مناسبة, القصد من هذا وذاك إعطاء ابن وابنة الوطن حق الدعم المتميّز له ولا يعني ذلك عنصرية ولكن ابننا أو ابنتنا منّا وفينا والأقربون أولى بالمعروف.