«كان معاوية نجمًا مفردًا في عالم الفكر العربي»
عباس محمود العقاد
خلفية
في أحد أحياء مدينة أمدرمان، وُلد معاوية محمد نور، الناقد الأدبي وأحد رواد القصة القصيرة العربية، عام 1909م، بعد عشر سنوات من مجيء اللورد هيربرت كتشنر غازياً السودانَ، وقاضياً على الدولة المهدية المتضعضِعة آنذاك، والتي كان جدُّ معاوية أحدَ أمرائها البارزين. بعد تفوقٍ دراسي مشهود، أُدرجَ اسمه ضمن الداخلين إلى كلية غردون المرموقة، وفي سنواته الغردونية تلك، بدأت ميوله الأدبية تظهر وتتضخم، فأخذ ينشر مقالات في الأدب والفكر، وترجمات عن الأدب الإنجليزي في الصحف السودانية، وكانت سعة اطّلاعه وثقافته أمرا مدهشا ولافتا للنظر. بعد ذلك اختيرَ لدراسة الطب في كلية كتشنر الطبية، التي ستتيح لدارسيها مكانة رفيعة في المجتمع، ودخلاً وفيراً، لكن معاوية الذي ملأ الأدبُ عليه حياته، لم يستسلم لذلك الإغراء القوي، فهَجَر الدراسة، واتّجهَ - رغم معارضة أسرته - إلى دنيا الآداب والفنون، والاستغراقِ في قراءة الكتب العربية والغربية، تساعده على ذلك لغته الإنجليزية التي أتقنها وخبر ثقافة أهلها، وسيصفه لاحقا إدوارد عطية؛ أستاذُه وأحد مصادرنا الثمينة عن حياة معاوية، بأنه «أول سوداني يتصل اتصالاً حقيقياً بروح الغرب». وعندما ضاق ذرعا بدراسة الطب، لاذ بالقاهرة هاربا، وكان ذلك ممنوعا لأسباب سياسية، فاعتُقل وأعيد إلى ذويه، غير أن عزمه لم يتبدد، فطالَب أسرته بالسماح له بالالتحاق بإحدى الكليات الأدبية في المشرق العربي، ولأنهم لم يقووا على الوقوف أمام هذه الرغبة الطاغية سُمح له. وما كان للحكومة الإنجليزية أن تمانع، فمعاوية هذه المرة اعتلى السفينةَ نحو بيروت ذات الصيت الجاذب. من هناك بدأ اسم معاوية يأخذ حيزًا كبيرًا في كبريات المجلات العربية، جنبا إلى جنب طه حسين والعقاد والمازني. قدم معاوية مقالات متنوعة، تعكس سعة اهتمامه، ومعارفه الرصينة، كُتبت بأسلوب أخاذ، مقالات في الدراسات الأدبية المتعدِّدة، والفن القصصيّ، والأدب المسرحي، ثم الشعر والشعراء، إضافة إلى البحوث الاجتماعية والسياسية والخواطر اليومية، مرورا بكتابة القصص، والخوض في الشأن السوداني آنذاك.
طرقَ معاوية أبواباً نائية عن أيدي الجميع، ففُتحت له، ودخل عوالمَ كانت لا تمر على بال النخبة الثقافيّة العربية آنذاك. أدخل معاوية إلى أحاديث الناس في شوارع القاهرة وبيروت والخرطوم أسماءً لأشخاص حقيقيين عاشوا وماتوا على الأرض، وأسماء لأشخاص آخرين عاشوا وماتوا على صفحات الروايات والمسرحيات والقصائد: دون كيشوت وبازروف وشنتزلر وساروجيني نايدو وتشارلي شابلن، وديستوفسكي، وآنا بافلوفا وغيرهم، بل إن معاوية هو أول ناقد عربي يذكر الشاعرَ تي إس إليوت على حسب قول المثقف الكبير الشاعر محمد عبد الحي وذلك في إطار انتقاداته التي وجهها للشعراء الرومانسيين العرب. وسيستغرق التعريف بالآثار الكاملة لمعاوية نور وقيمتها الفكرية والمعرفية صفحاتٍ كثيرة، فالداخل إلى عوالم معاوية لا شك سيعجب بتلك المعرفة الواسعة، وذلك الذكاء الحاد، والأسلوب المميز القوي، وسيتألم حين يعرف أن معاوية مات صغيراً، بحسرة العبقرية، وهو لم يتجاوز العقد الثالث من عمره، وحين وقف الأديب الكبير محمود العقاد على قبره في أمدرمان، وقد كان يحب معاوية ويرعاه أثناء سنواته في القاهرة، قال قولته الذائعة: «كان معاوية نجماً مفرداً في عالم الفكر العربي»، ورثاه بقصيدة خالدة. وهو كذلك حقاً، فالفتوحات التي أنجزها معاوية في تاريخ النقد الأدبي العربي كثيرة، والقضايا التي أثارها بشجاعة، والآراء الجديدة التي تبنّاه في النقد، كل ذلك خلّد اسمه بين عباقرة الأدب العربي الحديث ومجدديه. ومن بين كل تلك الفتوحات المهمة، نتوقف هنا عند موقفه من الفن القصصي آنذاك وريادته في كتابة القصة القصيرة عربيا.
معاوية نور والفن القصصي
كتب معاوية كثيراً عن القصة بوصفها نوعاً أدبياً رفيعاً، ويبدو من كتاباته عنها انحيازه التام لها، وتشجيعه عليها. في حديثه نقدٌ جريءٌ لبداياتها الخجولة المتعثرة، وهي تأخذ موقعها في الحياة الأدبية العربية أيامئذ. كانت كتاباته تظهرُ وإحدى عينيْهِ تنظر على واقع هذا الصنف الأدبي في محيطه الثقافي، والأخرى على النماذج الرائعة التي قدّمها كتّاب روسٌ وفرنسيون وإنجليز وآخرون، وهو بعد كل هذا يظهِر حماسا عظيما وتبشيراً لافتاً بمستقبل القصة والانتباه الذي ستحوزه. يقول مثلاً: «وما القصة الحديثة في واقع الأمر، سوى ثورة الديمقراطية في عالم الآداب، فلقد كانت الملحمة تعنى بشخص واحد، وترسم بطلاً واحداً، فجاءت الرواية وثارت على هذه البدعة التي لا تعنى إلا بالأبطال، وجعلت عامة الناس أبطالا»، وهكذا يفسر معاوية هذا الإقبال الكبير الذي ناله الفن القصصي في العالم كله، وعزا معاوية ذلك إلى أن العالَم «يرى نفسه بين صفحاتها (=يقصد الرواية/القصة)، وعلى مرآتها يرى حياته الاجتماعية مجلوّةً واضحة».
ومن واقع هذا التحمّس للفن القصصي، لم يتردد معاوية في إشهار قلم النقد على واقع هذا الفن عند روّاده العرب، أمثال هيكل وتيمور وكامل كيلاني وغيرهم. ويتبيّن لنا عندها معاويةُ أكثر درايةً وأقوى حجةً في شئون هذا الفن الرفيع، الذي أصبح قبلة القراء فيما بعد. وفي الوقت الذي يرى فيه معاوية أن فتور الأدب القصصي يرجع قبل كل شيء إلى جهل الناس بهذا الفن، بل كذلك «جهل من يسمون أدباء ومتأدبين» بهذا الفن، كان معاوية يعمل على تذليل الفن القصصي، وشرح مصطلحاته، وتحليله، وتقديم نماذج ملهِمة منه، فتجيء مقالاتٌ كثيرة لمعاوية عن: القصص في مصر، والقصص الروسي، وفلسفة الأقصوصة، والأدب العالي، والقصص الفرنسي، وأصول الفن القصصي، وهي إسهامات مضيئة ومجدِّدة، وذات قيم حداثوية، ولذلك فقد كانت صادمة لكثيرين. وإضافة إلى هذا الجهد الفكري، فإن معاوية لم يتردد في نهاية الأمر في نشر قصص قصيرة من إبداعه هو، جامعا بذلك بين التنظير والعمل.
وليس من شي أكثر دلالةً من حب معاوية لهذا النوع الناشئ من الفنون؛ نعني الفن القصصي، من خوضه هو ذاته في مضمار كتابتها، فتحْتَ عنوان كـ»صور وأقاصيص سودانية» ورَدت في الأعمال الكاملة المنشورة له سبع قصص، كان قد نشرها متفرقةً في مجلتَي السياسة الأسبوعية وجريدة مصر، في الفترة بين 17 مايو 1930 و13 يناير 1932م، وهي تتناول مواضيع وصورا متعددة. وفي المقدمة التي وجهها للقارئ أشار إلى أنه يرمي من كتابته لهذه الصور والأقاصيص إلى «درْس الشخصيات درْسا سايكولوجيا، درْسا يعنى بالنتائج والأسباب، كما يعنى بالدوافع والأزمات». وفي توضيحه لكلمة «سودانية» التي وصف بها قصصه، ينفي أن تكون الكلمة تعني المعنى الجغرافي السياسي المحدود، فالقصص هذه «وإن كانت حقا سودانية في شخوصها وجوّها» فذلك ليس بأساسها الذي قامت عليه وإنما أساسها «النفس البشرية والطبيعة الإنسانية التي تعنى برسمها وتصويرها تحت مؤثرات خاصة من الزمان والمكان والحضارة والثقافة». ولتوضيح قول معاوية وبالنظر مثلا في قصته «ابن عمه»، نجده يحدثنا عن الإحساس الذي يتقلب فيه الإنسان جراء الإحساس بالخيبة، وضياع الرجاء، وفقدان الأمل. يعري معاوية في هذه القصة النفسَ البشرية، ويروح يتفحصها وهي تنازع بين الحب والبغض، الوفاء والغدر، عارضا آثار التفاوت الاقتصادي بين الأثرياء والفقراء، خاصة داخل الأسرة الواحدة، وذلك من غير لغة واعظة أو أحكام جاهزة، تاركا القصة تقود نفسها بنفسها، وذلك من خلال أحداث القصة الدائرة بين خليل أبو دومة وابن عمه يوسف محمدين، فالأخير الذي قضى طفولة رائعة مع خليل وفرّقتهما الحياة بعد ذلك، يعود بعد سنين طويلة قضاها في مدينة الفاشر، بعيداً عن خليل الذي ما إن علم بنبأ عودة ابن عمه، حتى أسرع يسخّر كل ما يملكه رغم فقره لاستقبال وإكرام قريبه ورفيق صباه، ويحدث أن يتنكّر يوسف لخليل، ويتجاهل دعواته ويسوّف في لقائه، عندها يصبح خليل كتلةً من الغضب والحنق والشعور بالإهانة، وتمضي الأحداث فيفكِّر خليل في الانتقام من هذا الشخص الذي لم يتوانَ في التقليل من مكانته، بعد كل الذكريات بينهما، وعندما يقرر خليل أخيرا قتْلَ يوسف؛ ابن عمه، يدير الخنجر في اللحظة الأخيرة ليقتل نفسه، تاركا ابن عمه يصيح « إنني القاتل .. إنني القاتل».
وفي كل تضاعيف قصصه وتفاصيلها، يظهر ما عناه معاوية بالدرس السيكولوجي، وهي عملية تشريح أدبي للمشاعر الإنسانية، فهو يقول «وعندي أنه حسب الفنان المجيد، أن يعرض جزءاً عموديا أو أفقيا من الحياة، مع التحليل الفني اللازم، وعمل الخيال الناضج الموزون، والدرس السيكولوجي المتسق في الطبائع والنفوس»، ولا يخفى أن قصص معاوية القصيرة كانت مبنية على آرائه الفنية التي تبناه وهو ينقد أو يدرس كتّاب القصة والرواية والمسرح الكِبار، وعلى رأسهم فيودور ديستوفيسكي.
قصة» المكان»
«حينما فرغتُ من كتابة هذه القصة، رأيتُ واجباً عليّ أن أعِين القارئ العربي على فهْمها، لأنّ هذا الضرب من التأليف القصصي حديث العهد حتى في أوروبا نفسها، وهو آخر طور من تطورات القصة التحليلية»، هكذا ابتدأ معاوية القول في مقدمته لقصته «المكان» التي نشرَتها له جريدة مصر المرموقة في الحادي عشر من نوفمبر لعام 1931م، ويواصل معاوية يشرح مفهوم القصص التحليلي قائلا:» هذا النوع من الفن القصصي ليس من مهمته تصوير المجتمع ولا النقد الاجتماعي، ...، وإنما هو يتناول التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص، ويربط كل ذلك بموسيقى الروح واتجاه الوعي».
لا بد أن القارئ العربي ساعتها قد تعرّض لدهشة عظيمة وهو يتعرف على نوعٍ جديد من الفن القصصي مقدَّما بهذه الجرأة، فنٍّ تمثلت مهمته في عرض «الجانب الغامض في تسلسل الإحساسات واضطراب الميول والأفكار وتضادها في لحظة واحدة عند شخص واحد»، وهو آخر ما ظهر عند الكتّاب الأوربيين أمثال مارسيل بروست وفرجينيا وولف. ويرى معاوية أن هذا الفن القصصي «يعرض لأدق المسائل العلمية السايكلوجية المظلمة حتى للعلماء أنفسهم، ويمزج ذلك بنوع من الشاعرية والغموض العاطفي». وهكذا يقدم معاوية في الفن القصصي، نوعا حديثا ومختلفا، مدعوما بفكر مصقول، محدِثا نقلة للأمام في الواقع الأدبي العربي.
في كتابه عن الأدب السوداني الحديث، يرى عبد المنعم عجب الفَيا أن معاوية لم يكتب القصة من حيث بدأت القصة العربية وإنما من حيث انتهى الكتّاب الغربيون، الذين ادخلوا تكنيك تيار الوعي متأثرين بفتوحات علم النفس آنذاك. ويرى أن معاوية هو أول مَن لفت الانتباه إلى مفهوم شعرية المكان، أو ما سيعرف لاحقا بجماليات المكان، وذلك قبل أن يصدر الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار كتابه «جماليات المكان» بنحو عشرين عاما. فقصة المكان لمعاوية نور كتبت للتعريف بجماليات المكان، وتصف الإحساس بالمكان، مستفيدة من أحدث تقنيات السرد آنذاك. فبطل القصة كان يربط أصواتًا محددة بأماكن محددة، وكان يعطي أماكن لم يزرها تخيلاتٍ وتصورات محددة، وكان يحس عندما يزور مكانا لأول مرة بأنه يعرف هذا المكان وكأنه رآه في حياة أخرى، وغيرها من الأمور. وهي بذلك تقدم ما يمكن وصفه بأول قصة تحليلية عربية، وكذلك ربطا بين منجزات علم النفس والأدب، كُتبت بلغة جاذبة، ونقلت عوالم جديدة، إذ كان «مجدي» بطل هذه القصة، هو معاوية نفسه، ولا عجب فقد ذكر معاوية أثناء تعريفه بالقصص التحليلية أن كتّابها «يغلب أن يستثيروا نفوسهم ويكتبوا من معين حياتهم».
إن مكانة «المكان» في تاريخ القصة العربية، ومكانة الآراء الجديدة والجريئة لمعاوية نور في تاريخ الأدب العربي جديرة بوضع معاوية في مكان مرموق في تاريخ الأدب العربي الحديث، وأن تضيف قصةً ملهمة في حياة البشرية، وأن تمثل دافعا لإعادة بعث تراثه الأدبي الضخم. فهذا الشاب الذي عانى من قسوة الحياة والفقر، كان قد أعطى من فكره وشعوره بغزارة مدهشة، وكان نموذجًا لرجل قارئ ومطلع، مدركٍ لحساسية عصره، وفوق كل ذلك يعمل بكل قدراته على تغيير المجتمع من حوله. وقد استطاع بلا ريب أن يحدث تأثيرا في نفوس قرائه، وفي عصره كله. كان له دوره الواضح في تغيير واقع الثقافة محليًا وعربيًا إلى الأبد، فالفن القصصي والروائي الذي بدأ غريبا في مملكةٍ تنصّب الشعرَ ملكا على شعوب الأدب، نما واشتدّ عوده، فأخذ نجيب محفوظ نوبل للآداب بقصصه، وكان معاوية قبل ذلك، قد ترك مقالة ذائعة عنوانها: «نحن وجائزة نوبل»، وكذلك عُدّ السوداني الطيب صالح أحد أعظم الكتّاب في تاريخ البشرية. وبذكر الطيب صالح فإنه من الأثير لدينا أن نضع عبارته السديدة في حق معاوية نور خاتمةً لهذه الرحلة القصيرة في سيرة معاوية وآثاره، يقول الطيب: «كان معاوية يقول القول ويمضي عليه أكثر من خمسين عاماً فيظل صادقا كأنه قيل لساعته».
** **
- بشير أبوسن
Basheer.sin94@gmail.com