سهام القحطاني
هل انتهى زمن المثقف الجاد في ضجيج ثقافة التفاهة؟
وقد يندهش البعض من مصطلح» ثقافة التفاهة» نعم هو مصطلح وليس مجرد «توصيف» لأنه أصبح مُنتِجاً لقوالب شكلية ولفظية وفكرية تمثل استدعاءاته، وهو ما يسهل لنا القول بأنه يتجاوز «الظاهرة المؤقتة» إلى أسلوب وطريقة حياة مستدامة بضمان الثورة الاتصالية والعوالم الافتراضية التي أصبحت هي مصدر التعلّم الأقوى في تشكيل أسس تفكير ومعايير اختيار الأجيال وأسلوبها وسلوكياتهم.
وقبل ثورة مواقع التواصل الاجتماعي والعوالم الافتراضية والقرية الواحدة التي خلقتها العولمة كانت أوليات وأولويات الثقافة تتشكل بواسطة الأسرة والمدرسة والكتاب، وهذه المصادر كانت تضمن ثبات خصوصية هوية الشعوب وثبات أحادية المعايير، وهما ثابتان غالباً ما يُشكلان النسقية الثقافية للشعوب.
هل هذا يعني أن ثقافة التفاهة التي شكلتها سلطة مواقع التواصل الاجتماعي التي خلقت كل فرد مواطناً عالمياً بحيث أصبح التمسك بالهوية الخاصة كالقابض على الجمر، والعوالم الافتراضية التي مزجت بين الواقع والوهم لا تحمّل داخلها نسقية ثقافية؟.
وأظن أن هذا مكمن الخطر في ثقافة التفاهة أنها تتحول تدريجياً إلى نسقية ثقافية تُخضع العقول لسلطتها الخاصة ولمعايير تلك السلطة وقوالبها.
وأهم تلك المعايير «مفهوم القدوة وأشكالها وتمثيلاتها».
ولو قارنا بين «معيار القدوة بتفاصيله» بين السلطتين؛ سلطة النسقية الثقافية التقليدية وسلطة النسقية لثقافة التفاهة، سنستنتج اختلافات جذرية بينهما.
وأول تلك الاختلافات في أولية وأولوية التراتبية بين القيمة والتأثير التي تحدثت عنهما في الجزء الأول من هذا الموضوع.
ففي سلطة النسقية الثقافية التقليدية «القدوة حاصل القيمة ثم التأثير»؛ فالفرد كونه سلطة باعتباره قيمة هو الذي يتحكم في تشكيل وعي المجموع بواسطة سلطة التأثير، في حين أن سلطة ثقافة التفاهة «القدوة حاصل التأثير ثم صناعة القيمة»، فالمجموع هو الذي يصنع «نجومية الفرد» باعتبار ذلك المجموع ممثلاً لسلطة التحكم في تشكيل القيمة التي تخضع لحكم الكم لا الكيف.
ونلاحظ هنا التحول من تحكم الفرد المثقف أو ما يعادله في صناعة القيمة إلى تحكّم الجمهور في صناعة تلك القيمة، لكن تركيبة هذا التحوّل لا تبدو بسيطة كما قد نظن؛ لأن علاقة الجمهور كونه هو المتحكم في صناعة نجومية مصدر القيمة لا تلبث بالتراجع عن دائرة ضوء صناعة القيمة لتُصبح ظلمة بعيدة عن دائرة الضوء لكن ليس خارجها، لمصلحة فاعل النجومية الذي احتل دائرة صانع القيمة، وبالتالي سنرى أننا نعود مرة أخرى إلى تحكّم سلطة الفرد وتمثيلاته في الهيمنة على المجموع وهذا المسار ينعدم فيه الخط الفاصل أو يكاد بين الجمهور والنجم من حيث أيهما يتحكم في خلق القيمة.
وهذا هو منعطف تغيير معيار القدوة في كلا النسقين، فالمثقف في النسقية التقليدية كان يرتبط تأثيره بما يقدمه من فكر في حضور المثال الأخلاقي ، إضافة إلى ثبات ووضوح الخط الفاصل بين صانع القيمة والمتلقي، وفي نسقية ثقافة التفاهة فالفرد « النجم» يرتبط تأثيره بالبذخ الشكلاني الذي يقدمه وكلما زاد انحراف ذلك البذخ قوي تأثيره، وهنا نجدنا أمام أفكار يغيب عنها المثال الأخلاقي كلياً منتِجاً فوضى.
صحيح أن الصيغة الفردية تتكرر في كلا النسقين، لكن الفرد الذي كان يتحكم في توجهات المجموع في سلطة النسقية الثقافية التقليدية ليس هو الفرد الذي يتحكم اليوم في توجهات المجموع في ضوء سلطة ثقافة التفاهة سواء على مستوى التوصيف أو الأثر المحقق.
فالنجم وما يعادله اليوم الذي يتحكم في ثقافة التفاهة تنطلق سلطته من رضا الجمهور عنه وتُلغى تلك السلطة بمجرد سحب الجمهور منه ثقة الرضا؛ لذا قلت سابقاً سلطة الجمهور تبتعد عن دائرة صناعة سلطة النجم لكن لا تغادر تلك الدائرة.
أما المثقف في سلطة النسقية الثقافية التقليدية كان هو المسيطر على حركة وعي الجمهور؛ بسبب ندرة وسائل الاطلاع والثقافة التي كانت قاصرة على الكتاب والصحف والذي كان يلعب المثقف دور البطولة في إنتاج موادهما، دور منحه فرصة قيادة وعي ذلك الجمهور.
عندما تكون أمامك نافذة واحدة في غرفة مغلقة فأنت مُجبر على أن تنظر من تلك النافذة التي يتحكم فيها الوسيط بينك وبين كل ما هو خارج تلك النافذة وحينها ستجد أن ترى بعينه وتسمع بأذنه وتتحدث بلسانه وتفكر بفكره.
ولذلك عندما تعددت النوافذ في تلك الغرفة هرب الناس من النافذة القديمة ليصبحوا فراشات تطير عبر كل النوافذ، وظلت النافذة القديمة مهجورة حتى دُفنت تحت خيوط العنكبوت.
إن تلك النوافذ كانت الاختبار الأول لوعي الجمهور لقياس قدرتهم على الاختيار والتمييز بين النور والنار.
فالاختيار الخاطئ لا يقتل لكنه يقذف بك في متاهة قلما من نجح في الخروج منها.
لقد فشلت نافذة المثقف في استرجاع الفراشات التائهة بين نوافذ النور والنار إلى نافذته حتى عندما حاول تقليد مشية الطاووس؛ لأنه ظل زمناً طويلاً يظن أن نافذته الأرض التي لا تغيب عنها الشمس.
لكن هذه الرؤية المظلمة «لنافذة بيت العنكبوت « ما زال بها زاوية مترددة الضوء ترمز إلى أن المثقف الحقيقي في حربه مع ثقافة التفاهة خسر المعركة لكنه لم يُهزم في الحرب وأنها استراحة محارب وإن طالت.
وتفكيك مقولة «نافذة بيت العنكبوت» هو حديث آخر.