المؤلفة - مسعدة اليامي:
الشخوص:
هو شخص واحد متمثّل في الكاتب.
غُرفة مكتب بسيط, يوجد في الجهة اليمن من المسرح طاولة, يوجد عليها مجموعة من الأوراق وقلم، ومصباح صغير، وكأس من الماء وبجوارهُ كأس من القهوة، ويوجد على طرف الكرسي (منشفة) وبجوارها آنية من البلاستك بداخلها مجموعة من الأسفنج، بينما ديكور الجهة اليسرى عبارة عن جدار على هيئة مربعات كأنهُ بناء قديم صنع من الحجر.
المشهد:
يدخل من يسار المسرح الكاتب بملابسه البسيطة، يحمل في يده كتاب، ويضع نظارة كبيرة الحجم، وينفث دخان السيجارة ويمشي بخطوات مترنحة كأنهُ (ثمل) من شدة التفكير, يصاحب ذلك موسيقى تبعث على القلق, والخوف.
يجلس على الكرسي بكل ثقلهِ، يضع الكِتاب ثم يبدأ بدعك فروه رأسهُ بيدهِ اليسرى وهومنحني بجسدهُ تجاه الطاولة, يطفأ السيجارة ثم يرشف القليل من الماء، يخلع النظارة ويضعها فوق المكتب, ثم يريح ظهره على الكرسي ملقي برأسهُ إلى الخلف, يحدث ذلك على صوت موسيقى هادئة، وإضاءة خافته.
الكاتب: لقد تعبتُ كثيراً من القراءة ولم أجد الشخصية المناسبة التي أسقط عليها موضوع النص، الشيء الغريب الذي خرج مساء البارحة من تلافيف عقلي, ذلك العقل الذي يصغر ويكبر حسب تصور من يلتف حوله من الشخصيات(الشريرة, الطيبة، الساذجة)حتى تشعر أنهُ عبارة عن(معدة) تنتفخ من كثرة الأكل حتى تصاب بعصر الهضم, كذلك هوحال العقل عندما يُكثر صاحبهُ من التفكير المفرط, يعتريه الألم الشديد، والخمول لدرجة أنهُ لا يعد يمتلك القدرة على التميز بين من هوصاحبهُ الحقيقي ومن هي الشخصيات التي يبحث عنها حتى يسقطها على أوراقهِ .. التي تفقد بريقها عندما يبدأ القلم بدعك رأسهُ داخل رحمها حتى تنجب أفكارهُ المشؤومة!
الكاتب: ((واقف، ينظر إلى الأعلى، بنظرات كأنهُ يستدعي من الذاكرة)) (بروية) أبي قال: لي ذات مرة أنهُ يجب أن يكون عقلي كبير مثل الرجال، فهل يعني أن النساء ذوات عقل صغير؟! لا أدري لماذا لم أفكر في ذلك الأمر كثيراً ربما لأنني لا زلت صغير, لا أفكر سوى في اللعب مع أترابي، ولكن كيف استقى أبي ذلك الفلاح البسيط أفكار أرسطوعن المرأة، وهولا يعرف القراءة، ولم يسمع عن ذلك الفيلسوف .. الذي ذكر أن المرأة ما هي إلا رجل مشوه! فكان ذلك الاختلاف بمثابة (آه) حسرة نقشت في فكر التاريخ، وحكمة مدن المشاءين!
الكاتب: (يتحدث بسرعة) أذكر ذات مرة أنني قررت سرقة دراجة أخي الأكبر في وقت الظهيرة عندما يكون الجميع في خلاوات القيلولة، كنت أفكر كيف أتخلص من تلك الدراجة .. التي اقتنيت لهُ بسبب أنهُ الأكبر، فلماذا حرمت أنا من ذلك؟ ربما لأنني الأصغر؟ فقمت بتكسيرها ورميها بعيداً.
الكاتب: (بحزن)كانت أول مرة أسمع (آه) تخترق قلبي من قبل أخي شعرت أنها أحرقتني جراء قبح الفعل الذي قمت بهِ, ثم سمعت تلك(الآهة) تخرج من بين ضلوع أبي فزاد ألمي وتضاعف عندما انطلقت من فاه أمي (آه) شعرت في ذلك الوقت أنني أحترق بنيران شبت في جسدي من كل صوب.
الكاتب: (وجه لوجه مع الجمهور) لا أخفيكم لقد ندمت على فعلتِ ولكن جبنت عن الاعتذار, أدركت بعدما فات الأوان أن أبي وأمي يجلبان لكل منا ما يناسب ميوله.
فأخي يحب اللعب بالدراجات، والكرة وغيرها، بينما أنا أحب الأوراق، والأقلام والجلوس على الكرسي ورسم الحروف.
الكاتب: (بمرح) كنت في بعض الأحيان أُحلق بخيالي إلى عنان السماء. فتارة أكون المتنبي في زمانهِ، وتارة أكون الفرزدق، وتارة أصبغ وجه باللون الأسود حتى أكون عنترة، ومرة أحضرت عكاز ووضعت لحية كثة على وجهِ وارتديت ملابس من عصر الجاهلية وتبخترت في الأسواق كأني حكيم العرب، وعندما يخفق قلبي بالنساء أرتدي بذله سوداء, وأجلس كأني نزار قباني حتى وصفت بالمجنون, فخرجت من داخلي (آه) أشد قسوة من (آه) التي صدرت عني عندما شرع والدي بالذهاب بي إلى المداوي حتى يقوم بعملية ((الختان)) عندما كنت في السابعة من العمر, ذكريات ذلك الألم الذي صاحبهُ قرع الطبول وأطلاق النار لا زالت تصاحبني إلى اليوم في أحلامي وحديثي مع الورق.
الكاتب: (بنبرة يأس) بعدما رشف القليل من القهوة: لقد أدمنت الخلوة والرقم واحد كثيراً في حياتي التي خلت من النجاح وتدثرت بالفشل المكرر.
الكاتب يمشي قليل إلى وسط المسرح: لم أحقق يوماً المركز الأول أثناء دراستي, ولم أحقق المكان الأول عند أبي أثناء استقبال الضيوف والترحيب بهم وتبادل الأحاديث وصف المجاملات كما كانت الخادمة تصف الفناجين في الصحن, بل كنت أتعجل الوقت في أن يمضي بسرعة حتى أعود إلى مكتبي داخل غرفتي.
الكاتب (بصوت خجول):كنت أتحرج كثيراً عندما تنادي علي أمي حتى ألقي التحية على صديقاتها أوقريبتها وخاصة اللواتي يقمن على تقبيلي وضمي إلى أحضانهن الرخوة دون سبب, كم تمنيت في ذل ك الوقت أنني كنت من الأطفال النزقين الذين يصرخون ويقذفون كلامات نابية على الذين يقتربون منهم, ولكن للأسف كنت ذا طبع ملائكي محبب عند الجميع وخاصة النساء اللواتي يقحمن بداخلي الكثير من آهاتهن التي تخترق أذني كالرصاص ثم تستقر داخل قلبي الصغير.
الكاتب :(بصوت جهوري قوي) يحرك الأوراق بيده قائلا: إن الأوراق المبعثرة على المكتب تعج بالشخصيات التي توافدت إليها من الماضي والوقت الحالي والتاريخ الذي لا يكف عن نزف (الآهة تليها الآهة) بعد حرب ضروس مات فيه الأب والابن وبكت الزوجة والبنت والأم في كل بقعة على خريطة الكرة الأرضية, أتعرفون أن اللغة المشتركة والمفهومة بين العرب والعجم هي(الآهات) لا يختلف على ذلك فلمان أوخبرنا عن اندلاع حريق أوحرب أوسقوط طفل في بئر عميق، يخرج بعد ذلك من تحت الأنقاض جثة هامدة!
الكاتب: (بنبرة حادة يصاحبها الألم), كونكَ عربي ألا تشعر بالآهة عندما تصدر عن عجمي, هل تعتقد أن ذلك الأعجمي لا يشعر بالآهة العربية؟,,التي تشق الحجر، وتُسقط دموع السماء .**الآهة لغة القلوب والأرواح فصدقني أنها تفهم دون ترجمة!**
الكاتب يرفع القلم قائلاً :هذا قلمي رفيق الطفولة، والصبا واليوم هاوذا لا يزال رفيق خريف العمر, وأن كُنت أصاب بالوهن عند رفعهِ في وجه المتخاذلين عن الدفاع عن قضية إنسانية، اجتماعية، بسببها أصبتُ بأرق شديد, بينما هم استكانوا بأقلامهم المعطوبة في الظل, طلباً للمجد، والشهرة، وشهادات التقدير، وذلك بتغليف الضمير، وتجميدهُ في أقرب ثلاجة!((آه ثم آه ثم آه)) على طلائع كتاب الجيل الجديد.
الكاتب (بصوت مهموم) كُنت أستيقظ من النوم غارقاً في العرق الذي نز عن جسدي، بسبب الخوف من تلك الكوابيس المخيفة.. التي لم ترحمني حتى عندما وهن العظم واكتسى الشيب رأسي, فأحاول مسح ذلك العرق(بالمنشفة) وعندما تعجز عن أن تقوم بالعمل الذي أوكلت لها، أخول الأمر للأسفنج كونهُ يمتلك القدرة على الامتصاص أفضل.
الكاتب: (صوت دافئ) لا زلت أذكر جيداً عندما أفقت من النوم ذات مرة في هزيع الليل الأخير على صوت(آه) سرت إلي من مخيمات الحرب، فكانت تشكوإلي من الوضع المزري.. الذي يعيشونهُ النازحون، لا طعام ولا كساء ولا كهرباء ولا دواء، تحترق جلودهم بحرارة الصيف، ويقتلهم برد الشتاء، وتعوم أجسادهم في مياه الأمطار.. التي تتشكل على شكل بحيرات تقطنها الأمراض.
الكاتب:(بحزن)بكيت ثم بكيت حتى شعرت أن قلبي أنفطر، فلم يعد قادر على ضخ الدم مما تسبب في ضيق تنفس، نقلت بعد ذلك إلى أقرب مصحة، عودتُ إلى البيت بعد ذلك محمل بأكياس من الأدوية، لضغط والسكر، والقرحة بالمعدة.
الكاتب: (بأسى) لا تزال صور أطفال المخيمات.. التي تبثها نشرات الأخبار، ومواقع التواصل الاجتماعي(آه) تقسم روحي إلى نصفين، فلا أدري إلى أين أعبر؟ وأي نار أضع قدمي بداخلها، وأنا في هذا العمر, نار العمل التطوعي بصحتي المعتلة..التي قد تكون عائق للممارسة ذلك العمل ..الذي يحتاج جهد بدني، أونار ذلك المكتب لمواصلة كتابة النص المسرحي، وربما يعد ذلك جهد ذهني لا تبصرهُ القلوب ألا بعدما تسمع نبأ أن ذلك الكاتب يرقد في المصحة (آه) لوتعرفون أن الكتابة داء لا دواء لها إلا بالكتابة.
الكاتب (بتأمل) ذات ليلة بينما أنا أتجول في أزقة الحارات القديمة سمعت (آه)تخرج من بيت بسيط، استرقت السمع دون قصد أوبقصد فسمعت خلاف بين زوج وزوجتهِ عن أبنائهم.. الذين غادروا العش بعدما كبروا، ولم يظللوا ضعف والديهم بأجنحتهم، فلم يبقى بجوارهم سوى الخادمة.. التي كانت تقدم لهم ما يحتاجون إليه من أكل وشرب ثم تنصرف في آخر الليل مع الأصدقاء، وتعود وهي ثملة بلذة المغامرة فما أن ترى وجه ذالكما العجوزان حتى تكيل لهم بالسب، والشتم، كون أولادهم تأخروا عن دفع أجرتها فلم تجد طريق يوفر لها المال سوى سوق الدعارة، وترويج المخدرات، وسرقة المحلات حتى توفر المال لعائلتها في كوريا صدر عنها (آه) حركت الماء الراكد حول قضية الغربة والضياع بسبب ذلك الكفيل.. الذي لا يحترم العقود، والإنسانية.
الكاتب: (بحزن) وهويضع يدهُ على صدرهِ، بكيت تحت جدار ذلك البيت الذي هوى بقصتهِ داخل قلبي الضعيف.
الكاتب: (بهدوء)كان أبي يصفني بالضعف بينما أمي كانت دائماً تنصحني وتطلب مني ألا أكون صاحب مشاعر هشة في هذه الدنيا، لأن أصغر شراره سوف تحرق قلبي, وقد تتسبب في موتي, لذلك علي أن أمسح من ذاكرتي، قصة شاب أنهكتهُ البطالة، وموظفة أستغلها الأب, ثم الزوج، وبعد ذلك فلذة كبدها، وعن عانس لم تجد رجل يواسها في عتمة الليل، وعن أرملة فقدت الميراث على يد شقيق زوجها.. الذي تزوجها برحيق الكلام وطلقها بمرارة شجرة الأثل.. التي ملت الحياة الطويلة، وموظفي شركة طروا بسبب إفلاسها, فتلك ثلة من الآهات اليومية التي تصرف لنا عبر الصحافة، لقضايا، يطول بها العمر مما يشعرك أنها لا تعرف الموت!
الكاتب: جلس على الكرسي ثم أخذ يلعب في المصباح الذي على المكتب، فتحت النور على الشخصيات التي ماتت بسبب أهات (الفقر والحاجة والحرب والحرمان) أغلقت النور حتى لا يصل إلي أي صوت بعد تلك الأصوات المشنوقة بالآهات, ورغم ذلك وصل إلي عبر صفحات الكتب التي قرأت فكانت أصوات أصحاب العشق العفيف (فآهات) امرؤ القيس، وجميل بثينة وأبن زيدون فاضت لها دموع العين,فما كان مني إلا أن أستمع إلى **
(يا فؤادي لا تسل أين الهوى.. كان صرحاً من خيال فهوى) أم كلثوم (موسيقى) أغنية الأطلال
الكاتب: (بحماس شديد )قررت الذهاب والتجول بين القصور الفخمة التي يقطنها ((علية)) القوم حتى أعرف هل عندهم مثل بقية الخلق (آه) خاصة بهم أوأنها مصنوعة من الذهب، والياقوت، وربما أنها مجمدة داخل أرصدتهم؟! كونهم يعشون في حالة من الترف، فما حاجتهم لها حتى تصرف، فحياتهم نعيم في نعيم.
الكاتب :(يتحرك بتخفي كأنهُ لص )خيم الليل وأنا بجوار ذلك القصر الضخم، أرخيت أذني على الجدار, فسمعت ما لم أكن أتوقع .. سمعت صوت تلك المرأة الكبيرة في السن ..التي تصرخ من المرض فالمال الكثير لم يكفل لها الشفاء, سمعت صوت ذلك المراهق المقعد العاجز عن الحركة, فالمال الكثير وفر لهُ أطراف صناعية، وقلوب صناعية أفقدتهُ المتعة، والسعادة بالحب الحقيقي, سمعت صرخت ذلك التاجر بعدما علم أن الذي سرق أموالهُ، وسافر إلى الخارج هوفلذة كبدهُ, وسمعت ذلك الرجل يتشاجر مع زوجته، لعدم قدرة المال أن يوفر لهم طفل، كانت النوافذ المنتشرة في الجانب الأيسر بالقصر تنفث عبرها (الآهات) الحارقة الواحدة بعد الأخرى.
الكاتب: )عائد إلى مكتبهُ كأنهُ قائد مهزوم) عدت إلى المكتب بعدما تأكدت من أن الآهات تخرج من قلب الغني، والفقير الصغير, والكبير الرجل، والمرأة العربي، والأعجمي, وأننا نحن البشر من نضع لها أسباب, ونحلل لها طريقها حسب أهوائنا, رغم أننا نعلم أن الإنسان خلق في كبد.
تمت