تحتفي التعبيرية كمذهب فني بالإفصاح عن المشاعر والعواطف والحالات الذهنية التي تثيرها الأشياء والأحداث في وجدانية الفنان، لينحو عن المحاكاة الأرسطية، عبر تكثيف الألوان، وقوة الخطوط. الأمر الذي ساعد على تغذية التيارات التقدمية في الفن البصري السعودي وأحدث وهجًا في الأسلوبية وطرق التناول والتقنية، لتنطلق خطواتها نحو الخريطة الفنية العالمية، وظهور قائمة طويلة من الفنانين الموهوبين الذين تمكنوا من اقتناص العديد من القفزات والوثبات الفنية داخليًا، وفي العديد من مدن العالم،
ومهدت الرؤي الحداثية للفنانة «نوف الشريف» جسور التواصل بين الهوية والمعاصرة لتنشأ حالة من الحوار والتمايز الإبداعي بينهما، باحثة ومنقبة في توجهات ومدخلات مفاهيمية وتعبيرية لتصدير أفكار حداثية عدة، فاستلهمت «الفنانة» ألوانها القوية المشبعة بطاقات التعبير والشحنات العاطفية، من مصادر عدة حيث واتتها من المخزون البصري لديها من بيئتها.
لتتضمن أعمالها الفنية العديد من المتغيرات والتحولات الجذرية في الهيئة البنائية والمفاهيمية للعمل الفني، وممارساته الإبداعية التي انتقلت إلى منعطفات جديدة، حيث اختزال التفصيليات إلى مساحات لونية، مع تكثيف قوة الألوان الصريحة المباشرة، وطاقتها التعبيرية، والسماح لمناطق بالخلفيات للتوغل داخلها حتى تزداد دائرة العمق التأملي لأشباه الورود، واستخدام التقنيات الأدائية وطرق تطبيق اللون والصياغة، لتنحو بعيدًا عن قضايا الزخرف وتقليدية معالجة الأسطح، لصالح الفكرة، وإعلاء طاقة التعبير، وتوظيف التقنيات الأدائية التي تساعد على إثراء الرسالة، وعدم تعطيل تلك الممرات التي تتدفق من خلالها الأفكار غير المتوقعة.
إن تناول العمل الفني بهذه الكيفية الخاصة والعاطفية من الفنانة، قد ساعد على رسم ملامح مميزة موحية مفعمة بالطاقات التعبيرية، والتي ستمثل انطلاقة نحو صياغة أبجدية جديدة على المستوى المحلى والعالمي، مشحونة بالطاقة التعبيرية والتلميحات المفاهيمية من ناحية، وإعلاء الأجواء الخيالية الحالمة، والشاعرية الغنائية التي ترفع من قيمة أعمالها.
الزمكانية أزمنة خاصة وعوالم أثيرية عند «نوف الشريف».
عبر النحو التسجيلي الصادق الذي يترجم نبوغها وتألقها، والمسحة الشاعرية ذات الأجواء الموسيقية، حلقت الفنانة من خلال مفهوم يفند قراءاتها عن الخصوصية الإبداعية، وقدرتها على استيعاب تعاليم الحداثة التي تعزز حلولها البصرية، وتثري وسائط التعبير الفنية، عكفت نوف الشريف على دراسة طبيعة الحياة في منطقتها »بالطائف» بنظرة متأملة تستوحي كوامن نفسها مغلفة بروحانية تتسق مع رهافة الحس الذي تتصدى به الفنانة لعالمها الخارجي المحيط في منظومة ذات مستوى أدبي شعري فني موسيقي لتصدر أعمالها الفنية شحنات وتوجهات تعبيرية على نحو دافعه الأول إحساسها بعبقرية المكان من ناحية وما تفرضه الشواغل والقضايا الفكرية والإنسانية بموازين توجه حداثي معاصر يعزز انفعالاتها الداخلية من ناحية أخرى.
حيث شهدت طليعتها الفنية أسلوبًا واقعيًا تجلي في محاكاة عناصر الطبيعة والتي سيطرت على أعمالها آنداك لتفصح عن موضوعية تندرج تحت مقاييس الواقعية في خطها الأساسي وترتكز على النحو التسجيلي المشحون بالعاطفة كانت تترجم بلا مبالغة قدراتها الفائقة في طرق الأداء وتأصلت عندها مقومات السيطرة على أدواتها ووسائطها وتقنياتها وقدرتها على التعامل مع المعطيات المادية والفكرية مع التأكيد على شخصيتها وهويتها السعودية دون أن تنسلخ منها.
لتمثل بذلك البيئة الطبيعية في الطائف شاغلاً ومحركًا فكريًا عند الفنانة منذ نعومة أظافرها وتسطير بداية لغتها التشكيلية، حيث تركت هذه الملامح أثرها في نفس وروح الفنانة وانعكست على تكوينها الفكري والفني، فمنذ طفولتها كانت عين الفنانة تترجم عناصر الطبيعة ومفرداتها إلى مساحات وكتل لونية متناغمة متجاورة ومتباعدة لتتوارى بذلك الصياغات الشكلية والهيئات في صالح اللون وعلاقاته وقيمه الظلية والملمسية.
تسطير اللغة المفعمة وتعزيز التجاوب التفاعلي:
وقد أطلقت تلك الأطروحات الإبداعية التي دفعت بها الفنانة «نوف الشريف» في أعمالها عددًا من الاستبشارات التنويرية والتي مهدت بدورها لإثراء مدخلات تعزيز الطاقات التعبيرية بالعمل، وكذا الفعل الحركي، وحداثية المشهد البصري، وتعزيز التجاوب التفاعلي.
حيث امتلكت «الفنانة نوف» قدرة ذهنية وبصرية هائلة على استخلاص العناصر المبسطة للأشكال، حيث تطلق مخيلتها لتتجول في ذكرياتها لتنتقي منها الموضوعات والعناصر المتنوعة، والتي صيغت في هيئات تشخيصية مبسطة صياغيًا للوصول إلى قيم فنية وتشكيلية حداثية ذات قدرات وطاقات جاذبة.
فاستخدمت أحيانًا تحديدات قوية عريضة نسبياً باللون الأسود والأبيض لإيجاد الربط والانسجام فيما بين الكتل اللونية القوية المغلفة بالخواطر والأحاسيس، هذا إلى جانب الترديد والتنغيم الواضح في استخدام تلك الخطوط التشهيرية المتواترة العنيفة، حيوية الحركة مع العناية بحركتها واتجاهاتها والدقة في توزيعها عبر أماكن محددة بعينها والتركيز على تلك التباينات التي يصنعها تجاور تلك الخطوط مع المساحات والكتل البيضاء والملونة.
-إنه التنوع الانتقالي من كثافة الخطوط التشهيرية المتواترة الحرة العفوية، لكثافات أخرى بصورة تشكيلية واعية للغة البصرية ولمعطيات الإدراك البصري وقوانينه المركبة التي تتجاوب معها الفنانة بسلاسة فائقة، لتبرز تلك الكتل والإشارات الموحية ذات الطقس الغامض، والذي تشكل من الخطوط المتناغمة، وليونة الخطوط الكنتورية لتلك الورود، بتجريب تعبيري متفجر الطاقة، عضوي السمات للتعبير عن الانفعالات الباطنية.
حيث تترك الفنانة الكثير من التفاصيل منفتحة على سطح الأرضية مما يعطى العين فرصة للاستكمال التجول بصريًا عبر حرية مطلقة داخل الحيز البصري للعمل الفني. وجذب وجدان المشاهد إلى الداخل الجواني للعمل، الأمر الذي يكثف من تلك العلاقة والرابطة الحيوية بين ذلك المشاهد ورسالة الأعمال الفنية.
الأجواء الفراغية المعززة للأثيرية الحالمة:
تمكنت «الفنانة نوف الشريف» من خلال ثقافتها الواسعة وخبراتها التشكيلية المتنوعة تسطير فكرة جديدة للفراغ التشكيلي الذي يسكن خلفيات أعمالها، حيث جاءت أرضيات وخلفيات ورودها وشخوصها النابضة بدرجات لونية حالمة فاتحة هادئة حتى ينتشر في أجواء أعمالها حالة من السحر والأثيرية والروح الأسطورية والعطرية، ليصبح بيئة ملائمة تسكن فيها شبيه ورودها المتنوعة، ويمثل أداة رابطة توحيدية بين تلك الورود الكثيرة والمتنوعة الأحجام والكتل اللونية ومنحها الكيان الواحد، كما ساعدت تلك الخلفيات الحالمة بتعزيز الفعل الحركي والانفعالي التعبيري للخطوط التشهيرية المتواترة الحرة العفوية، حتى أصبح هناك خيط متسلسل يساعد على انتقال العين بحرية وسهولة بين الكتل اللونية العاطفية ذات التعبير الصاخب.
دشن فراغ وبيئة حالمة تنمو فيها شحنات العمل وطاقات التعبير للورود، لتدشين أثيري حالة تشحذ الدرجات اللونية المفعمة، والتمهيد لخطوط وتهشيرات ونقاط من خلال بعد وعمق لوني يدعم إضفاء الجانب السحري أسطوري الطابع.
طاقة التعبير ودينامية الخطوط التشهيرية المتواترة:
اختصت أعمال «نوف» بالعديد من السمات الخصوصية والمتفردة، وتوظيف الطاقات الانفعالية الكامنة للخطوط المتنوعة ودلالاتها، ووظائفها الدينامية داخل المساحة، والتي قد استلهمتها من هيئات وأنساق موجودة في الطبيعة.
فبجانب تلك الخصائص الأساسية للخط والتي تتمثل في تحديد الحركة والاتجاه وامتداد الفراغ، استعانت الفنانة بخطوط لينة داكنة لتحديد الأشكال، وللتعبير عن التجسيم والحركة والعمق وجاءت مشحونة بعواطفها وانفعالاتها، تفجر المشاعر، وتؤدي إلى صدى بصري يظل عالقاً في الأذهان لفترات طويلة.
وصياغة تلك الخطوط في دينامية إيقاعية داخل نسيج الأشكال للفصل بين الدرجات اللونية الكثيفة. وبالرغم من كثافة تلك الخطوط أحياناً، إلا أنها قد حذفت كل ما هو ثانوي وأبقت على الشيء الحيوي والحقيقي، فهي تسجل فقط ما تريد أن تقوله بدقة ونقائية وعلى ما يلازمه من معانٍ مضمرة. هذا إلى جانب محاولة التعبير عن رؤيتها الفنية بخطوط محيطية كنتورية للأشكال والمساحات اللونية، وثانيهما: دراسة مشكلة تفاعل الألوان وتشكيلاتها الجمالية بما يعزز دينامية تلك التهشيرات الخطية المتواترة في تكويناته، وتحقيق التوازن والترديد وضبط الإيقاع بين عناصر العمل حتى يكون في النهاية عملاً فنياً متكاملاً ومنسجم التأثير في مجموعه، فقد تحولت تهشيراتها الخطية المتواترة المحددة بدرجتها السوداء إلى تهشيرات ذات تنغيمات لونية متدرجة.
** **
د. حسان صبحي علي - الأستاذ المساعد بقسم الفنون البصرية