الشاعر محمود غنيم رحمه الله من الشعراء الكبار في عصرنا الحديث، تُوفِي رحمه الله عام 1972 ومحمود غنيم شاعر، تميز بعذوبة مفرداته وجمال صوره، أمَّا ألحانه فهي بلابل تغرد في حديقة غنَّاء! شاعر مُرهف الأحاسيس، يقتنص كل شيء حوله ليصوغ منه شعرًا فاتنًا، تطرب له الآذان وتبتهج له النفوس، وهو شاعر طريف وخفيف دم، بالرغم من صدود الدنيا، وتجهمها في وجهه! وهذه قصيدة طريفة، نظمها بعد أن تسبب ولده الصغير في ضياع ساعته! ويأتي أهله ليهونوا عليه ويقولوا له: ضياعها فدوة لولدك الصغير! ولكن هذا الكلام الإنشائي، لا ينطلي عليه! إنه يريد ساعته فقط! التي ينظم فيها قصيدة طريفة، يصور لنا فيها فجيعته بضياع هذه الساعة! أمَّا أنا فلن أتدخل في شرح القصيدة، لأنها سهلة عذبة لا تحتاج إلى شرح، وهاكم الفجيعة، قصدي القصيدة:
وساعةٍ كالسِّوارِ حوْلَ يدِي
ضاعت فأوْهى ضَياعُها جَلَدِي
مازال يطْوي الزمانَ عقرَبُها
حتى طواها الزمانُ للأبدِ
ضيَّعها نجليَ الصغيرُ وكم
حمَّلني من خَسارةٍ ولدِي
قالوا: فداءٌ لَهُ فقلتُ لهم:
كلاهما فلذتان من كَبِدي
قالوا: التمس غيرَها فقلتُ لهم:
وهَلْ معي ما يُقيمُ أَوَدِي؟
منْ مُسعِدي إنْ أكُن على سفرٍ؟
ومَنْ يفي لِيَ بالوعد إِنْ أَعِدِ؟
التَبَسَت أَيَّامي عَلَيَّ فَلاَ
أَفْرقُ ما بين السبتِ والأحدِ
واختلَّ وقتيَ فإِنْ وعَدْتُكَ أَنْ
أَزُورَك اليومَ جئتُ بعدَ غَدِ
كم رُمْتَ عَدَّ الساعاتِ مُهتديًا.
بالشمس لكنْ غَلِطْتُ في العددِ
روَّضْتُ نفسيَ على السُّؤَالِ.
وما حَمَلت ذلَّ السؤالِ من أَحَدِ
جَهْلُ الفتى بالزمانِ أهونُ مِنْ
سُؤَالِ غَيْرِ المَهْيِمِنِ الصَّمَدِ
أمست يدي بعدها مُعَطَّلَةً
منظرُها في العيونِ كالرَّمَدِ
فَمَنْ لِعَيْنِي بحُسْنِ طَلْعَتِها؟
ومَنْ لأُذُني بصوتِها الغَرِدِ؟
كم آنَسَتْ وحشتي بِدَقَّتها.
فالآنَ أصبَحْتُ شِبْهَ مُنْفرِدِ
لا غَرْوَ إِنْ أَقْضِ حَقَّ عِشْرَتِها
عِشْرَتُها ليَ طويلَةُ الأمَدِ
قد لازَمَتْ مِعْصَمِيَ سنين إلى
أَنْ أَصبحت قِطْعَةً من الجسدِ
ناطقةً بالصواب أن سُئِلَتْ
إِنْ قُلْتَ كَمْ لَمْ تَنْقُصْ وَلم تزِدِ
على الصراطِ السّوِيِّ سائرةٌ
إنْ حادت الشمسُ عنْهُ لم تَحِدِ
أَرْنو إليها إذا مَشَيْتُ وإنْ
جَلَسْتَ في مجلسٍ كَشَفْتُ يَدِي
ألم تُشَاهِدْ ذا نعمةٍ حَدَثَتْ
إذا مَشَى في ثيابهِ الْجُدُدِ؟
صَبَرْت صَبْرَ الكرامِ آمُلُ.
أَنْ تَعُود لي ثانيًا فَلَمْ تَعُدِ
(ثم هو يشك في أصدقائه، ولكنه بعد تفتيشهم يعتذر لهم!)
أسأتُ بالأصدقاءِ كًلِّهِمِ
ظَنِّي ففتَّشْتُهُمْ فلم أجِدِ
(وفي النهاية يدعو على الذي وجدها فأخذها لقطة)
شَتَّان بينِي وبينَ لاقِطِها
بات قرِيرًا وبتُّ في كَمَدِ
ليت الذي طُوِّقت بها يَدُهُ
في جيدِهِ حَبْلٌ شُدَّ مِنْ مَسَدِ
... ... ... ... ...
رحم الله شاعرنا الكبير محمود غنيم على هذه المداعبة الشعرية بعد ضياع ساعته! ترى ماذا سيقول: لو لحق بزمننا، وضاع جواله الذي فيه كل شيء، كل شيء؟! ولو كان في زمننا ونشر قصيدته في وسائل التواصل، لتعاطف معه الناس، وتعاطفت معه الشركات الصغرى والكبرى، ولانهالت عليه الهدايا والتعويضات، ولكن حظه - رحمه الله- كان رديئًا! الله يُكَبِر حظه في الآخرة!
** **
- راشد بن محمد الشعلان