من الكتّاب من يقول إنّ النصوص القصصيّة تتحقّق متعتُها من دون أيّ اشتراطات تتعلّق بمغازيها العميقة؛ وقد يُفهَم من حديث هؤلاء أنّه علينا القبول بالنصوص السطحيّة التي لا تحرّك تفكيرنا للتساؤل حولها، ولا تدعونا للتبصّر والتأمّل والوقوف طويلًا أمام النصّ... يدّعي هؤلاء أنّ ما قد تحمله النصوص من عمق ومغزى لا يتعدّى كونه توجيهاتٍ ووعظًا للمجتمعات، وهو أمر ليس من اختصاص المبدع، وهذا - بالطبع – غير صحيح؛ فالعمق الذي لا تُقبل النصوص الإبداعيّة بدونه، لا يُقصد به المُثُل، أو السلوكيّات القويمة، أو الأهداف السامية... بمعنى أنّ هذه الميزات المهمّة ليست شرطًا أساسيًّا لتصنيف النصوص واعتبارها إبداعيّة، أو رفضها، بدليل تغنّينا بنصوص إبداعيّة لكتّاب كبار يحملون توجّهاتٍ وأفكارًا تتعارض مع قيَمنا الدينيّة وأخلاقنا، والسبب أنّنا نرى قوّة نصوصهم وجمالها في عمقها المثري، ولا نتوقّف كثيرًا عند المغزى نفسه الذي هو أمر يخصّ كاتبَه، طالما لم يذكره صراحة وجعله مغلَّفًا داخل نصّه؛ ما يعني أنّ جمال القصّة وإبداعها وقيمتها الحقيقيّة تكمن في هذا العمق الذي قد لا نتّفق معه.
بناءً على ما سبق، يمكننا القول إنّ النصوص السطحيّة الخالية من العمق والتي تكتفي بسرد وقائع معيّنة - أكانت حقيقيّة أم تخيّليّة - هي نصوص لا قيمة لها على المستوى الإبداعي، ولا تلبث أن تنتهي سريعًا وتُمحى من ذاكرتنا؛ بينما ترسخ النصوص التي تأخذ بأيدينا للغوص في أعماقها واستخراج كنوزها؛ في وقت نجد أنّ تعمُّد مَن لا يملك الموهبة الحقيقيّة والمهارة اللّازمة الإتيان بالصور المتكلّفة التي تأخذ طابع الصَّنعة والزخرفة، ظنًّا منهم أنّ ذلك يعطيها قيمة وعمقًا، يُظهر القصّة القصيرة مشوّهة، ويجعل النصّ لا يقلّ سوءًا عن النصوص السطحيّة؛ على خلاف الكاتب المبدع الذي تأتي نصوصه دسمة وعميقة جدًّا، من دون تكلُّفٍ ظاهر، وتولد مكتنزة بالتجارب والأفكار والتجلّيات...
على أيّة حال، بالإمكان التأكّد من صدق هذه الرؤية الفنّيّة من خلال تتبُّع النصوص الإبداعيّة لكبار الكتّاب العالميّين، والتي هي أبعد ما تكون عن السطحيّة؛ فالمتعة التي ينشدها البعض لا يمكن أن تتحقّق في نصٍّ غير مكتمل الأركان من كلّ النواحي، من ذلك بالتأكيد جمال اللغة، والتقيُّد بكلّ الشروط المعروفة، مع ضرورة المزج بين الوضوح الذي يسهّل التلقّي، والعمق المثري الذي نبحث عنه.
وللدلالة على ما أقول والابتعاد عن التنظير، سأتوقّف قليلًا عند أحد النصوص الإبداعيّة للقاصّ الجميل والمبدع محمّد المدخلي، بعنوان «ترويض»، وهذا نصّه: «من خلف لوحٍ زجاجيٍّ، يتسمّر طفلٌ شاحبٌ أمام قطعة حلوى، يظلُّ يلعق أصابعه بنهم...!» في هذا النصّ المختزل تتحقّق المعادلة الصعبة التي لا يُتقنها إلّا محترفو الكتابة الإبداعيّة ممّن يستطيعون الجمع بين ظاهر النصّ الجميل وعمقه المثري، فالوصف المسرود واضح وصريح، لا لبس فيه، يخبرنا بأنّ أحد الأطفال وقف طويلًا وبعفويّة أمام «فترينة» أو واجهة محلّ حلويات، يوجد خلفها قطع من الحلوى المعروضة، فأخذ يتأمّلها ويلعق أصابعه، حيث لا حيلة له - كما يبدو - غير ذلك... هذه الصورة واضحة وصريحة، ويمكن لأيّ قارئ فهمها؛ وهنا نقول: إنّ النص اجتاز اختبار الوضوح والبساطة، ويسّر سهولة التلقّي للجميع.
وحتّى تكتمل الصورة الإبداعيّة، نتوقّف عند العمق الذي لا يشترطه البعض؛ وحتّى نوصل الفكرة، دعونا نتخيّل النصّ السابق بدون أيّ إشارة ترصد تفاعل الطفل مع الحلوى المعروضة، كأن يقال: «إنّ أحد الأطفال نظر إلى الحلوى المعروضة خلف حاجز زجاجيّ، وهو في طريقه إلى المدرسة». هل سيكون للقصّة أيّة قيمة لو كُتبت على هذا النحو؟ - بالطبع لا، بل إنّها تُعَدُّ أقرب إلى الجملة الخبَريّة، والسبب سطحيّتها، إذ لا يوجد داخلها أيّ دلالات أو سيميائيّات تدفعنا للتوقّف عندها والتفكّر في مغازيها؛ وقد يأتي بعضهم، إن كُتبت على هذا النحو السطحيّ، ويحمّلها ما لا تحتمل، بإسناد بعض المعاني الجميلة إليها معتبرًا أنّها تُفهَم ضمنًا. ولكن، مثل هذا النقد مرفوض، وفيه مجاملة لكاتب النصّ بدون وجه حقّ؛ فالنصوص لا بدّ أن تحمل دلالاتٍ لفظيّةً أو صوَريّة، تشير إلى المقاصد وتظهر تفاعلات النص الداخلية والخارجية، ولا يُقبَل أيّ تأويل لا يوجد ما يشير إليه صراحة في النصّ، بل يعَدّ حذلقة من الناقد إن فعل ذلك. فهذا الطفل الذي لم يُظهر أيّة ردّة فعل أثناء مروره، لا يحتمل نسبة أيّ أمر إليه إطلاقًا.
كانت هذه عيّنة من القصص السطحيّة التي يرى بعضهم أنّ علينا قبولها والاستمتاع بها دون التفكّر في مضامينها، طالما كُتبت بلغة جميلة وتقيّدت بالاشتراطات الشكليّة. لكن، بالعودة إلى النصّ الإبداعيّ الذي قدّمناه، نجد أنّ الكاتب لم يكتبه بالطريقة غير الجيّدة التي كُتب فيها المَثَل السابق، بل استخدم السيميائيّات اللفظيّة والسلوكيّة في علاقته الذاتية لإضفاء قيمة بنائية حقيقية إلى نصّه، كإتيانه بفعل «يتسمرّ» الذي يؤكّد أنّ الطفل وقف طويلاً في مكانه، ورفض المغادرة، ما يشير إلى ارتباطه بالصنف المعروض خلف الزجاج ارتباطًا وثيقًا. والسؤال الذي يُطرَح هنا: هل وقوفه كان حبًا بالحلوى ورغبة في التسلّي بها، أم أنّه يرى فيها ما يسدّ جوعه؟ يتّضح لنا المعنى الذي أراده الكاتب، عند استخدامه مفردة «شاحب» التي فيها دلالة واضحة على الفقر والجوع. وحتّى لا يدع لنا مجالًا للشكّ، أتى في نهاية النصّ بسلوك معيّن قام به الطفل: «يلعق أصابعه». ولعلّه تعمّد أن يقول «أصابعه» وليس إصبعه، للدلالة الأكيدة على فقره وعوزه، ورغبته الشديدة في الوصول إلى الحلوى...
كلّ هذه السيميائيّات الإبداعيّة منحت القصّة عمقها المثري، وخلقت قيمتها الحقيقيّة؛ وأخرجها من السطحيّة ما أضفاه عليها الكاتب من عمق كبير، جعلها - رغم تكثيفها وإيجازها - غنيّة وثريّة جدًّا. لقد أجاد الكاتب الجمع بين الغنى والفقر عندما أتى بالحلوى التي تعدُّ من أمور الرفاهية والتسلية لدى الأغنياء، ووضعها خلف لوح زجاجيّ، حتّى يأتي بالمكوِّن الآخر للمجتمع، أي الفقراء، ويُظهر كيف أنّهم يتلمّسونها كغذاء يسدّ جوعهم، رغم أنّها لا تُعتبَر كذلك في العُرف. لقد كان هدفه - في ظنّي - الإشارة إلى أنّ أكبر مصيبة يعاني منها الفقراء هي رؤيتهم لما يفعله الأغنياء، وكأنّهم يجبروهم على قبول العيش على هذا النحو المذلّ. لتأكيد هذا المعنى، وضع الكاتب عنوانًا إبداعيًا هو بمثابة عتبة مهمّة لهذا المعنى المقصود، ألا وهو: «ترويض»... في ظنّي، هذه هي الفكرة الرائعة التي بنى عليها الكاتب نصّه الإبداعي، فالفقراء يعانون فوق جوعهم وعوزهم وفاقتهم، عندما يرون الرفاهية التي يعيشها الأغنياء الذين لو استتروا وأخفوا بذخهم لربّما كان الفقراء اكتفوا بكسرة الخبز اليابسة، وما طمعوا بسواها.
إنّ عرض مثل هذه النصوص الإبداعيّة والتحدّث عنها، وإظهار جمالها الحقيقيّ، ربّما يكون فيه تبصير لأصحاب النصوص السطحيّة، فيروا عيوب قصصهم ويسعون جاهدين لتطوير أدواتهم في كتابة القصّة الإبداعيّة، أو لعلّه «يروّض» أقلامهم لوعي حالة الفقر التي تعيشها نصوص لا عمق فيها.
** **
- حامد أحمد الشريف