هذه السطور جزء من الحياة مضفور بسيرة الكتب، أو جزء من سيرة الكتب مضفور بالحياة، يتعذر الفصل بينهما، حيث قُدِّر أن تكون الكتب بالنسبة له حياةً، والحياةُ كتبًا، فامتزجت حياته بالكتب شطرًا مطالعًا وشطرًا مساهمًا..
شرارة عشق ضيف زاوية (ذاكرة الكتب) الأولى الدكتور (محمد علي عطا) كانت مكتبة أخيه، كما لو تمثل قول عمرو بن قيس الملائي: «إن الشاب لينشأ فإنْ آثرَ أن يُجالِس أهل العلم كاد أن يَسْلَم، وإن مال إلى غيرهم كاد يَعْطَب».
يقول الدكتور محمد عطا شاحذًا ذاكرته: لقد أحسن الله إليَّ حين فتحت عيني أول ما نشأتُ على مكتبة أخي الأكبر الدرعمي -حفظه الله- كانت مكتبة منوعة متخصصة ثقيلة، فيها كتب التاريخ والفقه واللغة والنحو والصرف والعروض، والأدب، والتفسير، وكثير من كتب مصطفى محمود، أتذكر منها: «حوار مع صديقي الملحد»، و«رأيت الله»، و «رحلتي من الشك إلى اليقين»، وعبقريات العقَّاد، وغيرها من كتب الثقافة الإسلامية عامةً والمجلات المتنوعة.
وقد أكبرتها وهِبْتها، لإحساسي إحساسًا فطريًّا أن هؤلاء المؤلفين لا شك عظماء ومميزون وعباقرة! وقد صاحبت كتبها ومؤلفيها، وكثيرًا ما كنت أخرجها من صفوفها وأتصفح ألوان أغلفتها ورسوماتها، واسمها، وصور مؤلفيها، ثم أعيد ترتيبها مرة أخرى، وكنت في هذه المرحلة المبكرة أحاول أن أقرأ غير أني لا أفهم كثيرًا من ما أقرأ، ولكني لم أفقد شغفي بها وتوددي إليها.
كان بها كثير من المجلات الخليجية مثل «الدوحة»، و«الأمة»، وكانت هذه سهلة القراءة أكثر من الكتب السابقة، خاصة أنها تحتوي على صور جذَّابة، وأتذكر من المقالات التي قرأتها فيها مقالا عن «عمر المختار» وعلى غلاف المجلة صورة كبيرة له على حصانه، ومقالا عن ثعبان «الأناكوندا» وبصحبته صورة لها ويجلس على طرفها طفل صغير، ومقالا عن الجارية المغنية «دنانير».
* ادخرت مصروفي من أجل (مجلة سمير)
وتابع مستعرضًا بدايات التجربة القرائية: في هذه السن الصغيرة تعرفت في «كُتَّاب» تحفيظ القرآن أو «المَكتب» كما نسميه في مصر، على صديقي «هاني أيمن عمر» رحمه الله تعالى، وقد فتح لي آفاقًا أخرى للقراءة ملائمة لسننا، غير مكتبة أخي، فعرَّفني على مجلة «سمير»، و»ميكي» وغيرها من المجلات الخليجية «باسم»، و«ماجد»، و«تان تان»، وكنا نتفق على الشراء وتبادل ما نشتري، غير أني تعلقت أكثر بمجلة «سمير»، وكنت أدخر مصروفي من أجلها، وما زال عندي منها كراتين مُكَرتنة حتى الآن، وكنت أنتظرها بشغف كل أسبوعٍ، وبمعرفة طريق «عم فوزي» بائع الصحف رحمه الله، تعرَّفت على سلسلة مغامرات «الشياطين الثلاثة عشر»، والمغامرون الخمسة: محب، ولوزة، ونوسة، وعاطف، وتختخ، وسلسلة «رجل المستحيل أدهم صبري» التي كانت تصدر كل شهر، وكنت أعكف عليها حتى أنهي قراءة القصة كاملة في يوم أو يومين، ثم تابعت سلاسل كتاب الجيب؛»زوم» و«فلاش» وهي إصدارات متنوعة فيها العلم والثقافة والفن والطرائف وألعاب التركيز والمقارنة والألعاب اللفظية والكلمات المتقاطعة. وصار عم «فوزي» يتركني مع الصحف والكتب بأريحية في «كُشْكِه»، بل ربما أذهب إليه في بيته فيتركني سواء هو أو زوجته أطالع في الصحف والمجلات بكل أريحية حتى وإن لم أشترِ، رحمهما الله تعالى.
وقد أهداني أخي الأكبر- حفظه الله - سلسلة السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين لكامل كيلاني رحمه الله، وقد كانت مؤثرة جدًّا، بسبب سهولة ألفاظها، وأسلوبها الأدبي، وضبط كلماتها كاملة، وقلة عدد صفحاتها.
وزاد: وشيئًا فشيئًا اطمأنت لي كتب مكتبة أخي، وفتحت لي صدرها، وأباحت لي فهمَ بعضٍ من سطورها، وكان أكثر من آنس بي وآنست به من هذه الكتب كتاب فخم الطباعة – غاب اسمه وبقي في المخيِّلة رسمه - يتحدث عن تطور موسيقى الشعر العربي، وقد شارك فيه عدة مؤلفين، وكان من نشر إحدى السلاسل الكويتية أو القطرية، وحفظت منه وقتها أبيات بشَّار:
رَبابَةُ رَبَّةُ البَيتِ
تَصُبُّ الخَلَّ في الزَّيتِ
لَها عَشرُ دَجاجاتٍ
وَديكٌ حَسَنُ الصَّوتِ
* (الجامع لفنون اللغة العربية) احتل مساحة في نفسي
ومن أكثر الكتب التي احتلت مساحة في نفسي وصاحبتها كثيرًا، وأكثرت من الاسترواح بها بين الفينة والفينة، كتاب «الجامع لفنون اللغة العربية، الفصاحة والبلاغة/ علم المعاني/ علم البيان/ علم البديع/ علم العروض والقافية» لعرفان مطرجي، أكثرت جدًّا من التأمل في الأبيات الشعرية التي يستشهد بها، ومما يعلُق بالذاكرة الآن مما أعجبني وحفظته منه:
وَلِيْ كَبِدٌ مَقْروحَةٌ مَنْ يبيعُني
بِهَا كَبِدًا لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرُوحِ
أَبَاهَا عَليَّ النَّاسُ لا يَشترونَها
وَمَنْ يَشترِي ذَا عِلَّةٍ بِصحيحِ
وكتاب د. الطاهر أحمد مكي رحمه الله «الشعر العربي المعاصر: روائعه ومدخل لقراءته»، استغرقتني مقدمته الشاملة الوافية الجامعة الموجزة، التي كانت سهلة الفهم - في غالبها - بالنسبة لي في هذا الوقت المبكر، وعشت مع القصائد التي اختارها، وأعجبني منها المُعجِب، ونفرت من غير المعجِب، وكان هذا هو أول طريق شُقَّ في ذائقتي الأدبية، وكان أول التصاقي بالأدب شعره ونثره، وعشت مع الشعراء المعاصرين من مختلف الأقطار والمذاهب الأدبية، ممن جمع بينهم الدكتور الطاهر مكي رحمه الله في سياق واحد، وكان هذا الكتاب أيضًا من أكثر الكتاب التي صحبتها، وأذكر أنني حفظت منه كثيرًا من أبيات قصيدة محمد مهدي الجواهري «نامي جياع الشعب نامي»، ورغم إعجابي بها جدًّا استنكرت ذائقتي وقتها تكرار كلمة «نامي» و»نامي جياع الشعب نامي»، وحفظت منه أيضًا قصيدة «غَرناطة» لنزار قباني، وما زالت أبياتها عالقةً بالذاكرة.
* «فَلَسوفَ أُرضعُكَ الجِراحَ معَ اللَّبنْ»
وقد وقفت على مختارات من ديوان هاشم الرفاعي، أعجبت جدًّا بالشعر فيها، وحفظت منها قصيدة «رسالة في ليلة التنفيذ» دفعة واحدة في وقت العصاري وأنا أجلس في «دُكَّان» والدي- حفظه الله-، إذ انفعلت جدًّا بها، وما زالت الذاكرة تعلق بمعظمها حتى الآن، وأعجبني من هذه المختارات أيضًا «وصية لاجئ»، و»وصية أم»، ووقفت كثيرًا وقتَها أمام نظامهما العروضي الذي يخالف ما عهدت من نمط موسيقيٍّ. ويحضرني من كلمات الأخيرة الآن: «وأقول هذا ابني ولم يرَ في طفولته أباه»، «فَلَسوفَ أُرضعُكَ الجِراحَ معَ اللَّبنْ».
وأشار إلى أبرز الكتب التي تأثر بها: ومن الكتب التي أذكر تأثري بها كتاب «قصص الأنبياء» لابن كثير المنتزع من كتابه الكبير «البداية والنهاية»، الذي كان لا يخلو منه بيت، وأتذكر ضيقي وقتها بالأسانيد التي تحجب عني متابعة السرد القصصي المشوق، ولا أجد لها معنى، وأتذكر أن أحد أصدقاء العائلة رآني أقرأ فيه أمام «دُكَّان» والدي فعلَّق قائلا: «أنت تقرأ في كتب أكبر من سنك». ولا أدري هل كان ذلك منه مدحًا أم ذمًّا، غير أني شعرت بالفخر.
ومن الكتب التي لا أنسى معاناتي معها كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وكم كنت أتعجب من صعوبة الأسلوب، وكنت أعيد قراءة الفقرة مرات ومرات ولا أفهم، رغم أنه في المقدمة يقول بأنه ألفه للناشئة ليفهموا معنى الإسلام، ويعرِّفوا به غير المسلمين إذا طلبوا منهم إعطاء مفهوم شامل موجز مقنع للإسلام، ولما كبرت واطلعت عليه مرة أخرى علمت أن السبب لم يكن فيَّ، بل في أسلوبه الفلسفي الذي لم يكن ملائمًا لي في هذا الوقت.
ومن الكتب التي آنست بها في هذا الوقت كتاب «تلبيس إبليس» لابن الجوزي، وكتاب»الداء والدواء» لابن قيم الجوزية، كنت أستمتع بما فيه من قصص الضلال والهدى، والانحراف والاستقامة، ويعلق بالذاكرة منه الآن قصة «أين الطريق إلى حمَّام مِنجابِ»، والشعر الذي قيل فيها:
يا رُبَّ سَائلةٍ يومًا وقدْ ضلَّتْ:
أينَ الطَّريقُ إلى حمَّامِ مِنْجابِ؟
فردت عليه:
هلَّا جَعَلْتَ سريعًا إِذْ ظَفِرتَ بهَا
حرْزًا علَى الدَّارِ أَوْ قُفْلًا على البابِ!
** **
- محمد هليل الرويلي