«الجزيرة الثقافية» - حاوره: جابر محمد مدخلي - جازان:
كانت الأسطورة رواية الأولين وحكاويهم قبل النوم وعند الاستيقاظ، وظل هو أحد المنصتين: للنبّاش، وأم الصبيان، وعبلة، وكلب عبّاس، والسبع البنات، وخرافات المزارعين والمزارع والأرض الطيبة وجازان قاطبة.. العباس معافا كاتب وقاص منحته الكتابة أكثر من جيل ومعاصرة وعُصارة. قاص ارتبط في ذهنية القارئ بالتماس والتماهي مع كل ما له علاقة بالإنسان تاريخًا وأسطورة وواقعًا في دمج سردي إبداعي قلّما تجده لدى كاتب معاصر في عُمره وتجربته التي تصعد خلالها في سماء السرد وعمق التخييل التاريخي والواقعي والجمالي. تجربة مهما غابت عن الساحة أو تأخرت إلا أنها توشك أن تعود.. تلتقيه الثقافية في حوار محاط بالشفافية المعلنة والممزوجة بالإمتاع فإلى نصه:
* يتواجد بداخلنا أبطال كثُر وكُتّاب كثُر في عقلٍ واحدٍ هو الكاتب، ومع هذا تجده ميّالاً لواحدٍ منهم دون الآخر، العبّاس مثلًا صار قاصًا.. فإلى ماذا تعزي هذا الانتماء رغم توافر الكثير من المهارات الأخرى؟!.
- لعل الفكرة تبدو لأول وهلة منطقية، من ناحية التأثر والميل لكاتب معيَّن، يجعلك واقعًا تحت تأثير إمكاناته أو لغته أو إلى أبطاله، لكننا يجب أن نقف عند لحظة ما من هذا التأثير الذي قد يوقعك في مأزق حقيقي، وأعني بالمأزق ذلك التأثير السلبي على روح الكاتب بداخلك. في البدايات كان التأثر بالروائي أمين معلوف، مما جعلني أقرأ كل أعماله.
أما عن رغبتي في أن أكون ساردًا رغم بدايات الشعر تلك، فلا أظن أن أي كاتب يجد ضالته دون تلك التخبطات التي تجعلك باحثًا عن ذاتك، لعلني كنت أبحث عن شيء تم إيجاده وبعد بحث مضني، أحببت أن أكون قاصًا وساردًا؛ لأنني وجدت ذاتي هناك.
* البطل الحقيقي هو البطل الأسطوري، أو الخياليّ الأكثر رسوخًا بالأذهان هكذا وجدت أبطالك بمعظم منجزك الإبداعي، وسؤالي: هل القصة الأسطورية قادرة على الحيلولة محل الواقعية المؤثرة والتي يبقى رسوخها بذهنية القارئ كلما عاد إليها!؟
- لعل الأبطال الأسطوريون هم أبطال حقيقيون تم سلبهم الأحقية في كونهم يمتلكون القدرة على التأطير، لذا لجؤوا إلى استدراج الأغلبية المنكِرة إلى عوالم أسطورية. الجزء الأكبر من العوالم الأسطورية تم تغليفها بقدرات تستفز القارئ أو السامع على حد سواء، فيجوز لهم ما لا يجوز للبطل الحقيقي، ومن خلالها يمكننا أن نمرر للقارئ ما نريد عبر خلق البطل الأسطوري وجعله متاحًا وممكنًا.
* في مجموعتك القصصية «أصّعد في السماء» الصادرة عن نادي حائل الأدبي والانتشار العربي 2009م لفتت انتباهي قصة «مفقود» بعدما قرأتها تبادر إلى ذهني مشاهد قرآنية مماثلة أوردت قصصًا ذات تأثير وعذوبة لا يمكن مقاومتها. بهذه القصة مثلًا تخيلت حادثة النبي زكريا حين قتله بنو إسرائيل بقطعهم للشجرة التي دخل فيها. وسؤالي: كيف نستطيع التوفيق بين الاقتباس الجزئي وتوظيفه بقصصنا، وكيف استطاع العباس الاستفادة من هذا الإسقاط بحادثة مغايرة كليًا وبدت أسطورية مؤثرة حقًا؟
- في هذه المجموعة كان هناك خلفيتان تعملان بالتوازي في الوقت نفسه، الفكرة ذاتها والنسيج التي بنيتْ عليه القصص، في أي نص قصصي نحن نهتم بما نقول وبما يجب أن يُقال، مثل تمرير الدواء في شربة حليب، لا بد أن ندرك عذرية القارئ والسبب في ارتباكاته التي تتداعي داخل النص، ونلعب على جزئية اليقين الذي يستميله. العبث يكمن في إيهامه بأنك ككاتب تحمل صورة جلية في اللحظة التي تكون فيها ممررًا لصورتين جلية وخفية، في هذه المجموعة كنت أستدرج القارئ للبحث عن الصورتين في آن واحد.
* مجموعتان قصصيتان بثلاثة إهداءات «إليها وهي في القلب آمنة» و»إلى روح فقيد الشعر الشاعر علي بن أحمد النعمي» و»باتجاهي فقط...» ثمة ارتباط بين الإهداءات عادةً وبين مشاعر باعثها أو كاتبها.. لماذا نُهدي الإبداع برأيكم؟ ثم ماذا لو عاد الزمن للوراء هل ستكون ذات الإهداءات كما هي، أم تُراه العباس سيغيِّر وجهةً منها أو يضيف عليها شيئًا ما!؟
- في المجموعة الأولى (أوشكُ أن أعود) كانت الذات هي الغالبة على معظم قصصها، لذا جاء الإهداء تلقائيًا، كان صادرًا من روح كل قارئ لها، وكأنه يقول بصوت كامن «باتجاهي فقط».
أما في المجموعة الثانية فقد كانت تحمل تداعيات أخرى، ما بين ذاكرة الشريك وذاكرة الفقد، لو عاد بي الزمن لن تتغير تلك الإهداءات.
* في إحدى الأمسيات الأدبية قُلتم: «إنه ليس لدينا تُراث سرديّ؛ وعزيتم السبب لأنّ الشِعر حلّ محل السرد لقرون طويلة...»، وسؤالي هنا: ما الذي تقترحه على المؤسسات الراعية للثقافة بوطننا بشكل خاص والعالم العربي بشكل عام ليغدو لدينا تراثٌ سردي نخاطب به الأمم والشعوب التي قد تستصعب شعرنا العربي الحامل لتراثنا الأصيل.. حتى وإن تُرجم إليها؟
- المقترح الأكمل لجعل تراثنا السردي يصل إلى الثقافات الأخرى في الاهتمام بجانب الترجمة إلى لغات مختلفة، نحن نرى ترجمة موازية للإبداعات السردية إلى العربية والاهتمام الحقيقي بذلك، لكننا لا نرى نقلاً لإبداعاتنا السردية إلى تلك اللغات.
نحن أيضًا كنا نستصعب التراث الغربي، لكننا ومع مرور الزمن أصبحت لدينا قابلية لتراثهم، نحن نمتلك كل المقومات للبدء في مشروعنا هذا، لكن ربما نحن نعاني من التردد غير المبرر.
* بما أنّ السرد هو عصب الإبداع ومحور تجربة العباس لعقود مضت، هل يمكننا التنبؤ بولادة رواية قريبًا لتكون بمنزلة خروج من المساحات القصصية إلى عوالم أوسع وأشسع؟
- العمل الروائي الأول كالمخاض الأول، يحمل في اكتماله المخافة والتردد، كل شيء مكتمل، لكن يحتاج الأمر إلى استحضار الرغبة في إطلاق العمل الروائي الأول بالنسبة لي.
* ما الذي يتراءى لكم كمثقف ممارس للإبداع والثقافة بمستقبل مشهدنا الثقافي السعودي مع توالي الأزمات العالمية وتصاعد مشاهد ثقافية عربية لتحل محل أخرى كانت هي المحور والمركز؟
- نمتلك المقومات الحقيقية في المشهد السعودي، في ظل وزارة تسعى جاهدة لجعل ثقافتنا جديرة بالبحث والتقصي، ما بين الأزمات والصراعات العالمية تولد الرغبة في تكوُّن صيغة مضادة للعبث الذي يقتحم عالمنا، المشهد الثقافي يخلق وجهًا آخر رافضًا لذلك الوجه المقيت للعالم، الإبداع يحتمي بذاكرة كل وطن يحاول أن يتجنب الصراع بكل أشكاله وتداعياته...