د. عبدالحق عزوزي
انتهت الانتخابات الرئاسية الفرنسية في دورتها الأولى بتأهل كل من الرئيس إيمانويل ماكرون أولاً بحصوله على 27.84 بالمائة من الأصوات وزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان التي حلت بالمركز الثاني بنيلها 23.15 بالمائة، وفق النتائج الرسمية النهائية؛ كما بلغت نسبة المقاطعة 26.31 بالمائة من الناخبين المسجلين، وهو أعلى مستوى لدورة أولى من انتخابات رئاسية بعد نسبة 28,4 بالمائة المسجلة في 2002 بحسب النتائج النهائية الصادرة عن وزارة الداخلية الفرنسية يوم نتائج الانتخاب.
ويستهل ماكرون حملته للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية بزيارة إقليم با-دو- كاليه شمال البلاد والتي عرفت تصويتا واسعا لمنافسته مارين لوبان في الدورة الأولى قبل أن يتوجه الثلاثاء إلى سترازبورغ شرقا... وتبادل الرئيس المرشح السيد إيمانويل ماكرون والسيدة مارين لوبان الانتقادات اللاذعة عن بعد في محاولة كل منهما إثبات أنه الأقدر على دعم القوة الشرائية للناخبين الفرنسيين، وذلك في بداية معركة محتدمة للفوز بالدورة الثانية للانتخابات الرئاسية في 24 أبريل/ نيسان الجاري. وأصبح ماكرون، الوسطي المؤيد للاتحاد الأوروبي، رئيسا في 2017 بعد فوزه بسهولة على لوبان عندما أيده الناخبون لإبعاد اليمين المتطرف عن السلطة، لكنه يواجه تحديا أكثر صعوبة هذه المرة.
وكشفت الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية انقسام المشهد السياسي في البلد إلى ثلاثة تكتلات رئيسية هي الوسط واليمين المتطرف واليسار الراديكالي، فيما بات الحزبان التاريخيان اليميني والاشتراكي مهمشين انتخابيا وماليا. وبعد عقود من التناوب على الحكم بين الاشتراكيين واليمينيين الديغوليين، وسع تولي الوسطي إيمانويل ماكرون زمام السلطة في 2017 نطاق الاستقطاب السائد في المشهد السياسي إلى درجات لا يمكن أن تتصور.
وحثت مارين لوبان بعد ظهور النتائج جميع من لم يصوت إلى ماكرون على «الانضمام إليها»، فيما توالت إرشادات المرشحين الخاسرين لأنصارهم لتوجيه أصواتهم في الدورة الثانية، إذ دعا مرشحو حزب «الجمهوريون» اليميني، وحزب الخضر، والحزب الشيوعي، والحزب الاشتراكي للتصويت لإيمانويل ماكرون.
من جانبه قال مرشح فرنسا الأبية، جان لوك ميلنشون، الذي حل في المرتبة الثالثة، لا تعطوا صوتا واحدا لمارين لوبان دون أن يقول «صوتوا لإمانويل ماكرون». ودعا إيريك زمور، مرشح حزب «الاسترداد أنصاره «للتصويت لمارين لوبان».
وأنا أتابع أطوار الانتخابات الرئاسية على القناة الفرنسية الأولى TF1، أثار انتباهي تحليل الفيلسوف الفرنسي لوك فيري الذي كان قد شغل منصب وزير التربية والتعليم في فرنسا في عهد رئيس الوزراء جون بيير رافاران ما بين 2002 و2004، وهو واحد من الفلاسفة الجدد، الذين أحدثوا تحولا عميقا في الأوساط الفلسفية السائدة، برموزها المعروفة أمثال جاك دريدا وجاك لاكان وجيل دولوز وميشال فوكو... لوك فيري ألقى باللائمة على الناخبين الفرنسيين الذين وللمرة الثانية، أخرجوا من الدور الأول ممثلي أحزاب اليمين وأحزاب اليسار، وهذا في نظره ليس بأمر جيد للحياة السياسية والاقتصادية في فرنسا؛ كما أن ماكرون بهاته النتائج أضحى لا يمثل تقريبا إلا خمس الساكنة في فرنسا التي صوتت عليه، وإذا ما فازت مارين لوبان، فهذا يعني الطلاق مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي والاضمحلال الاقتصادي لفرنسا.
وإذا ما رجعنا إلى الانتخابات الفرنسية لسنة 2017، فإننا نتذكر أنه في تلك الفترة، أحدث حزب الرئيس ماكرون زلزالين أساسيين: أما الأول فله علاقة بالأحزاب التقليدية. إذ تم القضاء على الحزبين التقليديين: «الحزب الاشتراكي» و»حزب اليمين» الذي قاد البلاد في معظم فترات الجمهورية الخامسة. أما الزلزال الثاني والذي تعيشه أيضا فرنسا اليوم فهو متعلق بالعلم السياسي كعلم؛ إذ تعلمنا قواعده أن الأحزاب السياسية لا يكتب لها النجاح إلا إذا توفرت على مخزون تاريخي يمكنها من تحقيق إيديولوجتها. فعامل الزمن وعامل الصراعات المشروعة الممتدة هي التي تعطي للحزب مكانته داخل المجال السياسي العام... هاته القاعدة المسطرة في كتب علوم السياسية فندت مع تجربة حزب ماكرون السياسية الأولى ثم الثانية...
ففي سنة 2017 كان المشهد الفرنسي غير مألوف، أما اليوم فإنه بدأت مأسسة ذلك المشهد غير المألوف، بفارق واحد، هو أن منافسة المرشح ماكرون في الدورة الثانية هي مارين لوبين، من اليمين المتطرف، والفارق بينهما اليوم ضئيل وكل شيء ممكن في عالم السياسة وفي قارة تعيش ويلات الصراع الروسي- الأكراني وغلاء المعيشة.