منصور الزغيبي
يعتبر علم السلوك من أهم العلوم الإنسانية وهو المدخل الرئيسي لها, لأن العلم والوعي والمظهر الحسن كلها أشياء مهمة قد تتحقق لكن السلوك والمفاهيم التي تشكله قد يعتريها خلل جوهري فيكون استخدام العلم والوعي والمظهر الحسن بشكل ضار وسلبي. لذلك السلوك الحضاري هو العمود الفقري لكل شؤون حياة الإنسان, وعامل جوهري للنهضة والتطور.
إن من أهم الأسباب الجوهرية لنهضة الدول والأمم هو السلوك الحضاري الواعي بذلك, وبغيابه تعيش المجتمعات الانحطاط والتخلف ويسيطر الجهل والظلم والظلام والأمراض وتكون مسكونة بالصراعات والعقد وسهلة الاختراق والاستفزاز والاستنفاذ لطاقتها النفسية بشكل سلبي.
«السلوكيات الراقية هي الإدراك الواعي والمرهف لمشاعر وأحاسيس الآخرين.. فإذا كنت تملك مثل هذا الإدراك.. فأنت صاحب خُلق حَسَن سليم, بغض النظر عن أيّ يد تمسك بها الشوكة». إيميلي بوست
إن أصل كلمة الإتكيت اختلف الباحثون حولها.. فبعضهم ردها إلى كلمة يونانية قديمة «ستيكوس» ومعناها نظام الطبقات أو الفئات الاجتماعية . وبعضهم يذهب إلى أنها الطابع أو السمة البارزة حسب التعبير الألماني Stechen. وباحثون فرنسيون يرون أن جذور الإتكيت تعود إلى Ticket الذي يعني بطاقة الدخول إلى المجتمع الراقي . كذلك مصر عرفت الإتكيت منذ العصر الفرعوني، وأول مخطوطة تحدثت عن أصول وآداب السلوك تعود إلى بتاح حوتب. وزير فرعوني «جد كارع» الذي حكم مصر القديمة ما بين 2412- 2375ق.م.
والعرب لهم دور بارز في ذلك ومؤلفات كثيرة في علوم السلوك. ومن أبرز الكتب في التراث العربي التي تناولت آداب السلوك والتاريخ حفظها «التاج في أخلاق الملوك» للجاحظ, وكتاب «أدب الدين والدنيا» للماوردي وغيرها.. وهنا ليس موطن استعراض لها بشكل تاريخي بقدر ما هو لمحة موجزة جداً.
إن الإتكيت علم خاص تعريفه هو : علم آداب السلوك والمعاشرة وفنُّ الحياة الراقية. هو علم قديم جداً له قواعد وأصوله بجميع لغات العالم. قائم على مبادئ تهذيب النفس. وهو فن راقٍ يتحقق من خلال الممارسات اليومية ويكون بأجمل الأساليب وأكثرها تهذيباً.
وبحكم أننا تفصلنا أيام معدودة عن إحدى أهم المناسبات الحياتية «عيد الفطر» وهي مناسبة لتعزيز العلاقات الاجتماعية وترميمها من جديد, ولتطوير مهارات الاتصال والذوق, والتدرب على قراءة مواطن الجمال في نفوس الآخرين, واحترام الذات والآخر, لذلك أشير بشكل موجز جداً على معانٍ تشكل روح العلاقات وجوهرها. في أصول المصافحة من الواجب النظر إلى وجه الشخص الذي تود مصافحته مع ابتسامة رقيقة نابعة من القلب, وتزكية المشاعر فالزكاة ليست مقصورة على الجانب المادي بل العطاء واجب في كلا الأمرين, وكذلك تجنب المصافحة بيد واليد الأخرى مثلاً في الجيب, أو التدافع أثناء مصافحة شخصية كبيرة.
التقيد في إتكيت التحاور، والقواعد والآداب، ومراعاة مشاعر الناس وعدم التجريح، أو التصنع والتفاخر، ولا بد أن تطغى لغة التفاهم أثناء الحوار على لغة الخلاف، وهذا عين العقل والذوق والحكمة. ومن الذكاء العاطفي والاجتماعي تدريب الذات على إجابة الأسئلة الخاصة والمحرجة بشكل مهذب وهادئ جداً ودبلوماسي بعيداً عن خلق موقف سلبي نحو الذات أو الآخر.
ومن الجميل والحكمة تعويد الذات على الصمت والإصغاء أكثر من الحديث، يقول سقراط خلق الله لنا أُذنين ولساناً واحداً, لنسمع أكثر مما نقول. ولأن الاستماع ينمي الثقافة واكتساب الخبرات ويساعد على فهم الآخرين بشكل دقيق وجيد.
كذلك الاهتمام بلغة الجسد لأنها تلعب دوراً كبيراً في عملية التواصل، وتعطي انطباعاً دقيقاً وحساساً لدى الآخرين. وشكر الآخرين والاهتمام بهم لأنه خلق نبيل وواجب وذوق والنبي صلى الله عليه وسلم يقول من لا يشكر الناس لا يشكر الله وهو نص شرعي صحيح. والاعتذار عن الخطأ شجاعة ومروءة وقوة وليس ضعفاً كما يعتقد البعض بسبب خلل المفاهيم التي تسكنهم وتشكلهم. ومن الإتكيت والحكمة ضبط النفس وتجاهل أي استفزاز يصدر نحو الذات. ومن أعظم الانتصارات هو أن تتغلب على المسيء بالتهذيب. وكذلك من الذوق والإتكيت استحضار آداب تناول الطعام والوعي بها جيداً.
خلاصة القول. إن الإتكيت ينمي في الإفراد سلوكاً حضارياً وإيجابياً داخل المجتمعات. ويعزز مبدأً أساسياً وهو حرص الإنسان على احترام ذاته واحترام الآخرين رغم كل الاختلافات وهو ضروري يسهم في وصول المجتمع إلى امتثال قواعد الأخلاق والتعامل الحسن على أرض الواقع. ويجعل المجتمعات متماسكة أمام كل التغيرات والظروف. ويعمق ويعزز الثقة بالنفس والاتزان النفسي لدى الأفراد.
والأم دورها يبقى هو الأساس والجوهر وهي المصنع الأول للجيل فهي قادرة على صنع جيل يلتزم بالخصال الحميدة وآداب السلوك ورهافة الشعور والثقة بالنفس..
كذلك ضرورة إدخال مادة مستقلة بعلم «السلوك» الإتكيت والذوق في جميع المراحل وخاصة المرحلة التأسيسية، لأن هؤلاء الطلاب والطالبات هم من سوف يرسمون المستقبل على جميع مستوياته وألوانه.
وكذلك من المهم تأسيس جمعية علمية للإتكيت والذوق والعمل على رفع الوعي المجتمعي. والحقيقة أن أصحاب السلوك الراقي تأتيهم فرص تفوق كل توقعاتهم رغم أن الأساس ليس البحث عن الفرص, وتتفتح لهم أبواب لا تفتحها أعلى الشهادات.. وأختم المقال بمقولة جميلة جداً وواقعية «السلوك الجيد يفتح لك أبواباً لا تستطيع أفضل المدارس أن تفتحها» لكلارنس توماس.