د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
من يستعيدُ من الكبار أيامَه الأُول، ومن يشاهدُ من الصغار قنوات «الأرشيف» - وليس صاحبُكم من الأخيرين وإن كان من الأسبقين - فسيعقدُ في ذهنه مقارنةً غيرَ متوازنةٍ بين زمنٍ كانت فيه «الدراما» تُعرضُ مسلسلةً وفق حلقاتٍ أسبوعيةٍ ننتظرها بشغفِ الصِّبا الذي ظنَّ العالَمَ مختزنًا في صندوقِ جهازه المرئيِّ، وربما توهمَ أنَّ ما يبثُّه الصندوقُ يختصرُ الحياةَ والأحياء.
** جاءتْ هذه القنواتُ لتكشفَ تواضعَنا المعرفيَّ والترفيهيَّ، كما كشفته منازلنا القديمة، وسككُ طرقنا الضيقةُ العرجاء، وأنماطُ أكلنا وشربنا ومجالسنا ومقاعدنا العتيقة التي لم يبقَ منها سوى الحنين للفتوةِ التي عشناها حينًا من الزمن، وللناسِ الذين شاركونا متعتَها يومًا، وتمنينا، وما نزال، حفظَ الآثار بدلًا من هدمها من غير أن نتطلعَ إلى المربع الأول حيثُ نشأنا.
** تتضخمُ المسافةُ أكثرَ عند مقارنة اليوم بالأمس، وتقفزُ بسرعةٍ كبيرةٍ إذا سيقتْ بإطار المقارنة مع الدراما العالمية بعدما كثرت منصاتُ عرضِ الأفلام والمسلسلات الأجنبية التي لا تدعك تنتظرُ الحلقة التالية من جانب، كما أن البناءَ الفنيَّ واللغويَّ والأدائيَّ والشخصيَّ عالمٌ آخرُ جعل بعضنا يعزفُ عامدًا عن متابعة بعض العروض الحوليةِ التي لم تستطعْ تجاوزَ مرحلةِ الستينيات مستمتعًا في الوقت نفسه بما تعرضه شاشاتُ ما بعد الألفيّة.
** ليس هذا فرضًا فهو مجردُ رأيٍ، وكلٌ أدرى بما يرى ومتى، وقد وجد صاحبكم متعةً في متابعةِ مسلسلٍ أميركيٍ عُرض خلال موسمين متتاليين 2020-19م مكونٍ من عشرين حلقةً عنوانه « البرنامج الصباحيّ The Morning Show»، وكان شفافًا كاشفًا معنيًا بما يدورُ ويُدارُ في مؤسساتهم الإعلاميةِ - ممثلةً بمحطةٍ تلفزيونيةٍ - من صراعاتٍ ومشكلاتٍ وتحدياتٍ في طرحٍ لا تنقصُه المنهجيةُ والصدقيةُ وتسميةُ الأشياء بأسمائها مهما بدتْ قاسيةً ومؤلمةً ومخالفةً لما أَلِفناهُ وعرفناه.
** غيرُ مهمٍ وصلُ الحوار حوله إلا بمقدار ثراء النصّ والمعالجة والسيناريو، ومع أن المسلسل اعتنى بتعريةِ البرنامج والمحطة والإدارة وتردي سلوكِ العاملين فإن المُتابع سيشهدُ له بالقيمة الفنية والأخلاقيةِ، والمقدرةِ على عكس الناتج بامتداحِ الحريةِ التي صاحبتْ الحلقاتِ، والغوص في دواخل الذواتِ، ومحاكمة الإذاعيين بمهاراتهم لا بشهرتهم وبتعاملهم لا بحظوتهم، والجوِّ المازجِ للعلاقات المنضبطة وغيرِ المنضبطة، والنهايةِ الحزينة لبعض رموزه بالمغادرةِ إقالةً واستقالةً وانتحارًا وموتًا مغتربًا، ونحوها.
** هنا المفارقةُ الأبرزُ؛ فمنْ يُسخِّر إنتاجَه للحقيقة سيظفرُ بها مع الإعجاب، ومن يقفزُ فوقَ الدلالات الموضوعية سيُثيرُ الارتياب، والمؤدَّى قوةُ العمل الدرامي إذا أُجيدَ طرحُه وعرضُه، وقد يخسرُ المخطِّطُ أهدافَه إذا بدا العملُ للجمهور هزيلًا، وحين يكون له مدارٌ منتشرٌ فإن الخسارةَ أكبر.
** في المسلسل صورةٌ عن الوسطِ الإعلاميِّ الأميركيِّ مع مبالغاتٍ وتفاصيل غيرِ مقبولةٍ حينًا، ولدينا صورٌ إعلاميةٌ تُشبهنا لو توفر لها كُتَّابٌ قديرون غيرُ مؤدلجين ولا مبرمجين؛ فأينُ نحنُ منها ومنهم؟
**الهوى هُوةٌ والهوايةُ خطوةٌ قاصرة.