أنا أعلم كما تعلمون أنّ بعضاً منا أجلبت عليه الديون وأطبقت حتى غدا محزوناً مهموماً حبيس جدران بيته يتخوف من الدائن أن يطرق بابه أو أن يستدعى إلى المحكمة!!
وأعلم كما تعلمون أن بعضنا أنهكته الأمراض وحار في أمره الأطباء حتى يئس من الحياة وأضحى شاحب الوجه يائساً من البقاء في هذه الحياة، وأعلم كما يعلم بعضنا أن هناك امرأة فتحت عينيها على ورقة طلاقها وهي في عنفوان شبابها وبدون ذنب يذكر أو سبب مقنع فغدت في حيرة من أمرها وظنت أن الدنيا قد أوصدت أبوابها دونها ولم يعد من الأزواج من يطلبها {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}، وأعلم كما تعلمون أن هناك من فقد وظيفته لسبب ما فأضحى كليلاً مغموماً مهموماً!
وأعلم كما تعلمون أن منا من أصبح في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه!
وأعلم كما تعلمون أن منا من أخذ الموت أحبابه وعاد في أعين الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد..
وأعلم كما تعلمون أنّ منّا من يرزح تحت وطأة الخلافات الأسرية والعائلية..
وأعلم كما تعلمون أن كثيراً من صعوبات الحياة تمرّ بنا وقد تكون أشبه بالروتين اليومي.
ومع ذلك دعونا نتفاءل ولو للحظة!!
أثبتت الدراسات العلمية أن التفاؤل يمنح السعادة سواء في البيت، أو العمل، أو بين الأصدقاء والأحبة؛ بل إن الدراسات العلمية المعاصرة تربط بين التفاؤل، وبين الصحة النفسية والعقلية والبدنية، ومن هنا كان التفاؤل من أعظم أسلحة الإنسان التي يتسلَّح بها من جميع الأمراض: النفسية والبدنية والعقلية والقلبية.
والمتفائلون سرعان ما يبرؤون من أمراضهم مقارنةً بغيرهم من المتشائمين، ويقال: إنَّ التفاؤل مريح لعمل الدماغ: فالطاقة المبذولة من الدماغ -لحظة التفاؤل - خلال عشر ساعات أقل بكثير من الطاقة المبذولة - لحظة التشاؤم - لمدة خمس دقائق.
دعونا نربي أنفسنا على التفاؤل في أصعب الظروف، وأقسى الأحوال، فهو منهج لا يستطيعه إلا أفذاذ الرجال.
فالمتفائلون هم الذين يصنعون التاريخ، ويسودون الأمم، ويقودون الأجيال. أمَّا اليائسون والمتشائمون، فلن يستطيعوا أن يبنوا حياةً سوية، وسعادةً حقيقية في داخل ذواتهم، فكيف يصنعونها لغيرهم، أو يُبَشِّرون بها سواهم؟ وفاقد الشيء لا يعطيه. إنَّ أعلى درجات التفاؤل هو التفاؤل في أوقات الأزمات، ولحظات الانكسارات، وساعات الشدائد، فتَتَوَقَّع الخيرَ وأنت لا ترى إلاَّ الشر، والسعادةَ وأنت لا ترى إلاَّ الحُزن، وتَتَوقَّع الشفاءَ عند المرض، والنجاحَ عند الفشل، والنصرَ عند الهزيمة، وتتوقَّع تفريجَ الكروب ودَفْعَ المصائب عند وقوعها، فالتفاؤل في هذه المواقف يُولِّد مشاعر الرضا والثقة والأمل.
قال الطغرائي:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
التفاؤل يتطلب منا حُسن ظن بالله تعالى؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله بغير سبب مُحقَّق. والمسلمُ مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.
نعم دعونا نتفاءل ولو للحظة... لأنَّ التفاؤل أولاً سنةُ نبينا - صلى الله عليه وسلم - وثانيها أنه علامةُ حسن ظنِّ بالله.. وحسن الظنّ بالله سيما المؤمن فقد قال تعالى: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ}، وقال جل جلاله في الحديث القدسي (أنا عند ظن عبدي بي فليظن عبدي بي ما شاء).
قال إيليا أبو ماضي:
أيها الشاكي وما بك داء
كن جميلاً تر الوجود جميلا
دعونا نتفاءل لأنه مقتضى العقل الراشد.. فالعاقل يعلم أن اليأس والإحباط لا يغيران من الواقع شيئاً بل يضيفان إلى مرارته مرارةً أشدّ.. بينما التفاؤل إن لم يحقق المأمول فهو على الأقل يخفف من وطأة المصائب ووقعها على النفس..
دعونا نتفاءل لأن الفأل وقاء من الأمراض وصحة في الأبدان، وقد ثبت علمياً في أكثر من دراسة طبية أن المتفائلين أقدر على التماثل للشفاء من غيرهم لأن التفاؤل يمدّ أبدانهم بطاقة داخلية عجيبة تعجل بإذن الله في الشفاء.
أيها السادة.. إنما هذا المقال كلمةٌ حسنةٌ.. والكلمةُ الحسنةُ نوعٌ من أنواع التفاؤل، وقد روى البخاريُّ في صحيحه عن مُسْلِمِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ».