محمد سليمان العنقري
منذ الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر التي بدأت في دول غرب أوروبا وهي تنتقل من وطور لآخر في الازدهار الاقتصادي وفرض هيمنتها الدولية من قرن لآخر حتى وقت قريب خصوصاً مع اتساع عدد هذه الدول التي دخلت عصر الثورات الصناعية لتشمل أميركا الشمالية ومع هذا النهوض الاقتصادي توسعت سيطرتهم السياسية والعسكرية وتحول الكثير منهم لقوى استعمارية، حيث غزت جيوشهم دولاً عديدة في قارات آسيا وإفريقيا على وجه الخصوص وامتلكوا كل أدوات القوة والتأثير في عصرنا الحالي سواء في حجم اقتصاداتهم أو قوة وسطوة شركاتهم العابرة للقارات وتحكمهم بالنظام المالي العالمي والتفوق التكنولوجي والعلمي بمختلف المجالات وتأثيرهم الواسع بالمنظمات والهيئات الدولية العاملة بكافة الميادين، ويظهر ذلك التحكم من خلال ما يصدر عن هذه الجهات من قرارات أو توصيات المستفيد الأكبر منها الغرب، ولعل الأزمة الأوكرانية أكدت ذلك، حيث وجهت حتى منظمات دولية رياضية بمقاطعة روسيا رغم أنها تضع شعاراً أن لا علاقة لها بالسياسة ولا تقبل أي تدخل سياسي باتحادات الدول المرتبطة بها إلا أن ذلك اتضح بأنه مجرد شعارات عندما هددت مصالح الدول الغربية.
لكن ما يلفت الانتباه هو حراك الغرب منذ سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي، فنظرتهم إلى أنهم أصبحوا بلا منافس أو عدو مهدد لهم وأن أكبر دولهم أميركا باتت هي القطب الأوحد بالعالم مما يعني أنهم شركاء في هذه القيادة الموحدة للعالم جعل من توجهاتهم لإدارة خيوط السياسة بالعالم بدبلوماسية في ظاهرها الرغبة في التعاون وفي حقيقتها تغذية النزاعات في كافة القارات وتفجير القنابل الموقوتة مما رفع من سباق التسلح دولياً ونمت مبيعات الأسلحة بنسب كبيرة جداً في العقود الثلاثة الماضية كما تحولت دول إلى الفوضى وأصبحت مرتعاً خصباً للجماعات الإرهابية كما زادت أعداد المهاجرين قسرياً من الدول التي تحولت لفاشلة في محاولة للنجاة بأرواحهم ووصلت الأعداد لعشرات الملايين، وما يربط بين ما حدث من فوضى في مناطق جغرافية عديدة بالعالم والغرب هو دورهم في هذه الأزمات وتدخلاتهم التي أطالت أمد الأزمات وانتقلت لمراحل لا يمكن أن تعود تلك الدول لاستقرارها السابق فالتشوهات الاجتماعية والانهيار الاقتصادي فيها أصبح معضلة يصعب حلها إلا بولادة جديدة لا يعرف كيف ستكون مآلاتها فأميركا أطلقت قبل حوالي 17 عاماً مشروعاً سياسياً للشرق الأوسط أسمته الفوضى الخلاَّقة وبدأته باحتلال أفغانستان ومن بعده العراق وكان لدول أوروبا الغربية أدوار متنوعة معها في تلك المرحلة وبعد دلك بحوالي 18 عاماً قرروا الانسحاب من هذه الدول بعد أن تكبدت الدول المحتلة خسائر بشرية واقتصادية ضخمة وأيضاً أنفقت دول الغرب تريليونات الدولارات على هذه الحروب مما رفع من حجم ديونها السيادية وجاءت بعدها أزمات مالية واقتصادية كبرى كان مسرجها أسواق أميركا وأوروبا خلفت نتائج سلبية ضخمة ما زال العالم يدفع ثمنها بمزيد من التضخم والتقلبات الحادة في معدلات النمو الاقتصادي العالمي.
يُضاف لذلك توجه أميركا لمواجهة مفتوحة مع الصين القوة القادمة بقوة لتبوؤ صدارة العالم اقتصادياً وقيامها بعمل العديد من التحالفات في المناطق المحيطة بالصين كتحالفها مع أستراليا وبريطانيا باتفاقية اوكوس بالمحيط الهادي ونشبت حرب تجارية بينهما بدأتها أميركا في عهد الرئيس السابق ترمب وكذلك الإعلان عن مبادرة إعادة بناء العاام التي أطلقها الرئيس بايدن لتكون نداً ومنافساً لمبادرة الحزام والطريق الصينية لكن كل ذلك لم يوقف الصين عن النمو وتحقيق أهدافها والتوسع بتجارتها وعلاقاتها الاقتصادية الدولية، بل باتت هي المرحب بها من دول عديدة بالعالم. أما في أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا فقد أقرت عقوبات قاربت 6000 عقوبة على روسيا منا ساهم برفع أسعار السلع الغذائية وكذلك المعادن والطاقة، فهي من أكبر الدول المصدرة لهذه السلع وأوصل التضخم العالمي لمستويات لم يشهدها منذ أربعة عقود وأصبحت دول فقيرة في حالة من الذعر مع احتمال عدم قدرتها تلبية احتياجات سكانها الغذائية مما يهدّد الاستقرار فيها وبذلك قد تنتشر الفوضى بالدول الفقيرة وتتفاقم مشاكلها لدرجة تنذر بمزيد من أعداد الهاربين من جحيم الفوضى فيها كما تحاول دول الغرب رغم كل هذه الصورة القاتمة المزيد من التضييق على روسيا إما بتهديد فرض عقوبات على شركات من دول التزمت الحياد حول هذه الأزمة إذا ما كان لها أي تعامل مع روسيا وطالبوا دول مثل الصين والهند بوقف أي تعامل أو شراء للنفط أو الغاز الروسي رغم أن ذلك التشدد بالعقوبات قد يحجب حوالي 7 ملايين برميل نفط وسوائل الوقود الأخرى عن السوق العالمي بحسب تصريح أمين عام أوبك مما يعني انفجاراً بأسعار الطاقة وارتفاعاً بالتضخم فمجمل القرارات والتوجهات الغربية أصبحت مثار تساؤل حول مدى صحتها وقدرتها على نزع فتيل هذه الحرب وأن ما يقومون به سيعيد الاستقرار للعالم خصوصاً أن خلافاً حول بعض هذه التوجهات قائم بين بعض الدول الأوروبية وأميركا.
الغرب ما زال متفوّقاً بشتى المجالات ولديه فائض قوة ومما لا شك فيه أيضاً أن نظاماً عالمياً ولد وما يحدث هو إظهار معالمه لكن عند رصد مجمل القرارات والتوجهات للقوى الغربية منذ 30 عاماً والألفية الجديدة يصعب وضعها في سياق أنها خالية من الأخطاء القاتلة لهم قبل غيرهم فاقتصاداتهم تعاني من نمو بطيء وشيخوخة مجتمعية وديون سيادية ضخمة وارتفاع الصوت العالمي المنادي بالاعتماد على عملات أخرى غير الدولار واليورو في التعاملات التجارية وفي بناء الاحتياطيات للدول، كما أن المؤثّرين بالنمو الاقتصادي الدولي أصبحوا الاقتصادات الناشئة وهم أكبر مستورد للسلع والخدمات ولديهم مجتمعات فتية وثروات طبيعية هائلة.. فهل كان الشعور بأنهم القطب الأوحد هو سبب ما نراه من تخبط بالقرارات والتوجهات وتراجع الثقة بقدراتهم على دعم الاستقرار الدولي، فالمنافسة الدولية ظاهرة صحية لأنها تدفع كل طرف لبناء خططه وحساباته بتحوط كبير وذلك بعكس الاحتكار الذي يدخل الترهل للمنشأة أو الشركة المحتكرة لصناعة أو خدمة ويقتل الإبداع فيها مما يضعف منافستها عند أول اختبار يواجهها محلياً أو دولياً، وهذا ما يبدو أنه يحدث للغرب بعد ظهور القوى الاقتصادية الجديدة المنافسة لهم في العالم.