د. محمد بن يحيى الفال
بالكاد بدأ العالم يتنفس الصعداء بعد الجائحة الكونية حتى حبس أنفاسه خوفاً من تداعيات التدخل الروسي في أوكرانيا على خلفية رغبة الأخيرة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي ضاربة بعرض الحائط مخاوف روسيا على أمنها القومي بكونها تقبع في خاصرة روسيا الجنوبية مما يضع حلف الناتو على حدودها وهو الأمر الذي يرى الرئيس بوتين بأنه تهديد في غاية الخطورة لمستقبل أمن بلاده ووحدتها الترابية.
التدخل الروسي في أوكرانيا ما زال محتدماً بيد أن مخاوف العالم من نشوب صراع نووي على خلفيته تبددت إلى حد بعيد ووضعت الحل السلمي التوافقي إن عاجلا أو أجلاً كخيار وحيد لا مفر منه لإنهاء الأزمة الروسية - الأوكرانية، حل سيضع ولو مؤقتًا حدًا لأحلام كييف في الانضمام لحلف الناتو. التدخل الروسي في أوكرانيا لم يكن مفاجئاً من الناحية النظرية على الأقل فروسيا وقبل عدة سنوات كانت قد استولت على شبه جزيرة القرم الواقعة جنوب أوكرانيا وضمتها إلى أراضيها بعملية عسكرية محدودة تبعها استفتاء برغبة غالبية الأهالي الانضمام لروسيا، ولكن المفاجئ هو أن كل الجهود الدبلوماسية التي بذلت لحل سلمي للأزمة الروسية - الأوكرانية ذهبت أدراج الرياح. شاهد العالم هذه الجهود التي شملت لقاءين عن بعد جمعت كل من الرئيس الأمريكي بايدن والروسي بوتين وزيارات لموسكو لحل فتيل الأزمة قام بها مسؤولون غربيون من ضمنهم الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشار الألماني شولتس والتي ترتبط بلاده مع روسيا بخط أنابيب حيوي لاقتصادها يبلغ طوله أكثر من ألف ومائتي كيلو متر تحت البحر لنقل الغاز الروسي لألمانيا وأوروبا.
منذ أكثر من ثلاثين عاماً وتحديدا في عام 1991 تفكك الاتحاد السوفيتي وأنحل معه في نفس العام حلف وارسو الذراع العسكري للكتلة الشرقية وتشكل اتحاد الجمهوريات الروسية بمساحة هائلة تتجاوز 17 مليون كيلو متر مربع وعدد سكان يقارب 150 مليون نسمة. انشغلت روسيا الجديدة بترتيب بيتها الداخلي وأضحي العالم يسير نحو نظام عالمي أحادي القطب تتزعمه بدون منافس الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية المتحالفة معها والمنطوية تحت مظلتها في حلف شمال الأطلسي «الناتو» والذي أثبتت الأزمة الروسية - الأوكرانية أهميته القصوى في الحفاظ على المصالح الغربية وهو ما يتنافى تمامًا مع رؤى الرئيس الفرنسي ماكرون ونظرته السطحية والذي وصف الحلف بأنه «ميت دماغياً».
مع انشغال روسيا في ترتيب بيتها الداخلي تم تحييدها من قبل الغرب كتهديد رئيس لمصالحه واتجه التركيز نحو تنامي قوة الصين الاقتصادية والعسكرية بحجم سكاني هائل تعداده مليار ونصف المليار من السكان وهم في تزايد بعد أن أقرت الصين مؤخراً قانوناً يسمح لكل عائلة بإنجاب ثلاثة أطفال واعتمدت الصين في مواجهتها مع الغرب على سياسة النفس الطويل الذي بدأ ينفد لدى الساسة الصينيين خصوصاً فيما يخص تايوان والدعم الغربي لها لتبقي منفصلة عن الأمة الصينية، بيد أن أزمة الجائحة الكونية التي اجتاحت العالم من مدينة وهان الصينية جعلتهم يعيدون الكثير من حساباتهم فيما يخص تايوان أو على الأقل يؤجلونها خصوصاً بعد رؤيتهم للكم الهائل من العقوبات التي تعرضت لها روسيا بعد تدخلها في أوكرانيا والذي شمل كل مفاصل الاقتصاد الروسي ولم يستثن حتى الدبلوماسيين الروس الذين توالى طردهم جماعات وأفراداً من العديد من العواصم الغربية في خطوات تعيد للذاكرة وبقوة فترة الحرب الباردة بين الروس والغرب خلال حقبة الاتحاد السوفيتي.
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه حول التدخل الروسي في أوكرانيا هو لماذا لمن تنجح كافة الوسائل والسبل الدبلوماسية التي قام بها الغربيون لإقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحل الأزمة مع أوكرانيا دبلوماسياً عوضاً عن الحل العسكري الذي قام به!؟ سؤال في محله حير أكثر المحللين السياسيين حنكة وخبرة خصوصاً أن الرئيس بوتين سياسي محنك شهد كل تفاصيل تفكك الاتحاد السوفيتي السابق وقيام الاتحاد الروسي الحالي ويعرف تمام المعرفة بأن مصالح بلاده الاقتصادية مع الغرب على المحك وسوف تتضرر بشكل جذري في حالة تدخله العسكري في أوكرانيا وتم تحذيره من قبل الرئيس الأمريكي بايدن ومن الأوروبيين بالعقوبات الصارمة ومع ذلك وضع كل تلك التهديدات خلف ظهره وأتجه لخيار الحل العسكري.يبدو أن المشهد في مخيلة الرئيس بوتين هو بأن الفرصة سانحة وقد آن الأوان لتشكيل نظام عالمي جديد يكون فيه لروسيا دور محوري، نظام لا يستند إلى الأيدولوجيات التي فشلت سابقاً ونتج عنها تفكك الاتحاد السوفيتي واتضح فشلها كذلك وتقلصها في أحد أهم قلاعها الحالية الصين الشعبية بعد أن رأت محاسن رأسملة الاقتصاد التي بدأها الزعيم الصيني الإصلاحي الراحل دينغ شياوبينغ ويعول عليها الرئيس الروسي على شراكة لتأسيس هذا النظام من الدول المتضررة من النظام العالمي الحالي أحادي القطب والتي كانت تشارك الاتحاد السوفيتي السابق الأيديلوجية ولعل لهذا التحليل ما يسنده على أرض الواقع والذي يتمثل في أن التدخل الروسي في أوكرانيا تم بعد عشرين يوماً فقط من توقيع روسيا والصين على معاهدة شراكة إستراتيجية وصداقة بلا حدود تناهض في أحد أهم بنودها تمدد حلف الأطلسي. يعلم الرئيس بوتين يقينا بأن مقدرة روسيا في استحداث نظام عالمي جديد تكمن في مشاركة قوة اقتصادية كبيرة كالصين للنجاح بكون تجربة الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية تفككت وفشلت بسبب ضعفها الاقتصادي. بيد أن الأحداث التي أعقبت التدخل الروسي في أوكرانيا نتج عنها موقف صيني محايد مؤيد على استحياء لروسيا وهو الأمر الذي يبدو بأنه قد سبب خيبة أمل للرئيس الروسي، ولكن وكما هو معروف عن السياسة الصينية دائما ما تراقب الموقف بحذر وقد تغير موقفها لاحقاً نحو مساندة كاملة لروسيا في مواجهة الغرب.
نجحت روسيا على محورين فقط خلال أزمة تدخلها العسكري في أوكرانيا وهي أن الغرب يضع مصالحه فوق كل الاعتبارات الأخرى مهما كانت ودليل روسيا على ذلك مشاركة النازيين الجدد من اليمينيين المتطرفين الأوكرانيين في مواجهة الجيش الروسي وغض الغرب البصر عن جرائمهم في مقابل إدانة الغرب للأوكرانيين الانفصاليين الموالين لموسكو في شرق البلاد. كذلك استطاعت روسيا كسب الرأي العام في الكثير من دول العالم وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط وذلك بتعرية الديموقراطية الغربية وبأنها مزيفة وانتقائية وبأنها تحشد قضها وقضيضها وماكينتها الإعلامية والاقتصادية والعسكرية في حال تعرض دولة تشبه الغرب عرقياً وثقافياً في مقابل غضها البصر عن مجازر تعرضت لها الكثير من الدول واكتفي فيها الغرب بالإدانة الخجولة أو الدعوة للتحلي بضبط النفس.
مقدرة روسيا على استحداث نظام عالمي جديد مرهون بمشاركة الصين كذراع اقتصادي لهذا النظام وحال حدوث ذلك ليس من المستبعد كذلك انضمام الكثير من الدول المؤثرة عالمياً له بحثا عن مصالحها التي أثبتت الكثير من الوقائع بأنها لا توجد على قائمة اهتمامات المعسكر الغربي وهو الأمر الذي لن يفوت على الغرب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية والتي من أهم مزايا نظامها قدرته الفائقة على تصحيح أخطائه وبسرعة فائقة لتعود فاعله وبمصداقية لكثير من حلفائها حول العالم الذين بدأ الكثير منهم ينفضوا من حولها أو على الأقل لا يثقون في مصداقيتها.
لعل أكثر ما يفسر قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتدخل العسكري في أوكرانيا عوضاً للجوء للحل الدبلوماسي نراه متجلياً في مقولة الشاعر والدبلوماسي الروسي الشهير فيودور إيفانوفيتش تيوتشيف من القرن الثامن عشر حين قال مقولة ذهبت مثلاً وهي «لا يمكنك فهم روسيا بعقلك»، «Umom Rossiyu ne ponyat».