اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
تم التخطيط لغزو أوكرانيا والهجوم عليها لإنجاز مهام بالغة الأهمية وتحقيق أهداف مصيرية من خلال حرب اختصرت القيادة الروسية فيها الزمان ولم تهتم بطبيعة المكان على النحو الذي فرض وتيرة ابطأ لسير العمليات وتعثرها على مختلف الجبهات نتيجة لحصول ما لم يكن في الحسبان وصعوبة القتال في المدن والمناطق الآهلة بالسكان، كما أن قيود الحركة على الطرق وتركيبة الوحدات المقاتلة وكثافة آلياتها كان على حساب العنصر البشري الذي يحميها على الطرق ويوفر مطالبها اللوجستية، الأمر الذي أفقد حركة القوات أمنها وأتاح للخصم الكمون لها وتأخيرها أو تدميرها.
وما طرأ على الموقف من مستجدات وعدم القدرة على التكيف مع المتغيرات والاعتماد على العامل التقني للمعدات العسكرية وتغليب الكيف على حساب الكم يعود الجزء الأكبر من ذلك إلى خطأ الخطة الأولية التي وضعت على أساس تحقيق أهداف الحرب وإنجاز مهامها في فترة زمنية قصيرة، متجاهلة حجم المقاومة الأوكرانية وتعقيدات الحرب الزمانية والمكانية.
وقد استفادت القوات الأوكرانية من الأسلحة الغربية الحديثة، وتمكنت من التصدي للزحف الروسي وألحقت بالقوات الروسية خسائر في الأرواح والمعدات، مرغمة القادة الروس على مراجعة الحسابات والتدقيق، الأمر الذي قد يدفعهم إلى سياسة الأرض المحروقة التي تعلموا فنونها، وتوارثوها خلفًا عن سلف من دولة الاتحاد السوفيتي.
والواقع أن هذا الصراع لم يعد مقصورًا على الساحة الأوكرانية، وإنما تجاوزها إلى الدول الأوروبية التي اكتوت بناره وخيم عليها غباره، واقعة بين مطرقة مطالب شعوبها من الطاقة والأمن الغذائي وبين سندان تهديد روسيا ومكر أمريكا، فالأولى تعيش أحلام الماضي، وتدعي أنها تدافع عن أمنها القومي ومصيرها الوجودي، والثانية تحيك المؤامرات الغادرة وتبث الدعايات الماكرة وتشعل الحروب في سبيل تحقيق أهدافها الاستراتيجية وأطماعها الجيوسياسية على حساب الحلفاء قبل الأعداء.
والدول الأوروبية التي تقودها الولايات المتحدة في هذا الصراع ضد روسيا تتكون شعوبها من عددٍ من الإثنيات العرقية التي تجمع بينها ثقافة قائمة على التراث المسيحي اليهودي وهي دول ذات موروث وتاريخ طويل حافل بالحروب والقتال، تصنعها الأزمات وتجمعها الحروب، وما تمر به في هذا الصراع ما هو إلا تذكير لها بالقسوة والوحشية وما خاضته من الحروب الظالمة وما مارسته من الممارسات الآثمة عبر التاريخ مع إحجامها في هذا الصراع عن مواجهة روسيا عسكريًا.
وأزمة أوكرانيا وحربها تم فرضها على هذه الدول وألقت بتبعاتها على جوانب من حياة شعوبها الأمنية والاقتصادية، الأمر الذي اضطرها إلى فرض عقوبات على روسيا ومساعدة أوكرانيا بالسلاح والعتاد بعد أن فشلت جميع المحاولات عن ثني روسيا عن الأقدام على ما أقدمت عليه من حرب جعلت الباب مفتوحًا على كل الاحتمالات وفسحت المجال لأسوأ التوقعات واختلط فيها الحابل بالنابل.
وبالنسبة للظهير الأمريكي فقد دأب على المكر بالحليف قبل العدو، حيث أراد إقحام روسيا وتوريطها في الحرب ووضع الدول الأوروبية أمام الأمر الواقع لمصلحة أمريكا التي تحاول صرف النظر عن الحلول السياسية وتوريط الروس والزج بهم في مستنقع الحرب عن طريق الإمعان في وضع السيناريوهات العسكرية ونقل أجواء الحرب إلى أوروبا، وذلك من أجل تكريس السيطرة على دولها وإفساد العلاقة الروسية الأوروبية وخصوصًا الاقتصادية منها من خلال خلق الأزمات الأمنية والسياسية وفرض العقوبات الاقتصادية، وقد تحقق لها ذلك ونجحت بفضل العقوبات في إبعاد روسيا وعزلها عن الفضاء الأوروبي ووضع نهاية لاحتضانها ودمجها في المجال الاقتصادي الأوروبي، كما تحولت الحرب إلى حافز يحفز الدول الأوروبية على إعادة التسلح وخصوصًا ألمانيا.
وربما تكون الإدارة الأمريكية قد وجدت ضالتها وانتهزت فرصتها في هذه الحرب لتفعيل حلفها الجديد الذي دعت إليه في قمة الديمقراطية، تلك القمة التي صنفت فيها دول العالم إلى دول ديمقراطية وأخرى غير ديمقراطية من أجل بلوغ مآربها وتحقيق مكاسبها الأمنية والاقتصادية والسياسية، والعصا الغليظة التي عادة ما ترفعها أمريكا مع الدول الحليفة والضعيفة لا يوجد لها مكان مع روسيا والصين باستثناء عصا العقوبات الاقتصادية والدعايات والسياسات الملغومة.
ومهما كانت تكاليف المواجهة في أوكرانيا فإن روسيا سوف تحاول تحقيق الحد المقبول من أهدافها والخروج منها وهي أكثر تصميمًا على إثبات وجودها والمحافظة على دورها كقوة كبرى، حتى لو اضطرها هذا الهدف إلى استخدام الأسلحة الحرجة وما يؤدي إليه ذلك من محرقة بشرية وإبادة جماعية، كيف لا وهي الدولة النووية الكبرى التي يبيح مذهبها العسكري ودستورها السياسي استخدام السلاح النووي في الحرب التقليدية دون أن تأبه بالقوانين الدولية والأعراف المرعية والقيود والضوابط التي تحكم استخدام هذا السلاح، معطية نفسها الحق في تحويل المفهوم الردعي إلى مفهوم هجومي يسمح لها باستخدام القوة النووية متى ما شاءت وتحت أي ذريعة تختلقها.
وفي ضوء هذا الصراع فإنه من الصعب الحكم على مستقبل أوكرانيا التي أصبحت محورًا للصراع ومساحة المواجهة فيها عالمية، وسواء انتهت الحرب أو استمرت إلى حين فإن الدولة الأوكرانية ستبقى مسرحًا تتصارع فيه روسيا مع المعسكر الغربي، وإصلاحها بعد ما حل بها من خراب وإعمارها بعد دمارها سيظل هدفًا بعيد المنال وما يشبه المحال.
وفي أحسن الأحوال فإن غزو روسيا لأوكرانيا واعترافها بانفصال بعض أجزائها أدخل هذا البلد فيما يشبه إرغامه على الرضوخ القسري وقبول واقع جديد يفتح الباب على مصراعيه لمزيد من التداعيات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي يترتب عليها ابتعاد أوكرانيا عن المعسكر الغربي وقبول التعايش المستقبلي مع جوارها الروسي.