توقَّفت السيَّارة أمام دارٍ أنيقةٍ، وإن علاها من أثر السِّنين ما علاها. كان الباب مفتوحًا فاعتبرت ذلك إذنًا بالدُّخول، أكَّده صوتٌ جهورٌ بالسَّماح. كان واقفًا باعتدادٍ وأناقةٍ بثوبٍ أبيضَ ناصعٍ و»صديريَّة» بلونه. لم يكن يلبس غترة، والشَّيب يزيِّنه ويزيده وقارًا. رحَّب بكلماتٍ أنيقةٍ مختارةٍ ودعاني للجلوس مع ضيفٍ قدَّمه بأنَّه الشيخ عمر فقيه. أجلسني واستمرَّ مكملاً حديثًا مع ضيفه، ولم يطل المقام أو الحديث فقد أستأذن الضَّيف مع ارتفاع صوت المؤذِّن لصلاة الظُّهر. التفتَّ إليَّ وقال «أظن ندخل جوَّه أحسن، وأبرد»، وكان كما قال.
كلُّ شيءٍ في الدَّار كان ينمُّ عن ذوقٍ يختار بعناية. وجلسنا في بهوٍ داخليٍّ أخذني الالتفات إلى تفاصيله حتى انتبهت إليه وهو يسألني عن الموضوع الذي قدمت عليه إليه. كانت الموافقة السَّامية قد صدرت على الاحتفاء بالذكرى المئويَّة لتأسيس المملكة العربيَّة السعوديَّة، والعمل قد ابتدأ على الكتاب المصوَّر عن الملك عبد العزيز رحمه الله، والمصاحب لمؤتمر «الدَّارة» عن الملك عبد العزيز. سألته إن كان لديه ما يضيفه من مجموعته الخاصَّة. أخذ بيدي إلى جناحٍ فيه مكتبه ومكتبته التي كانت عامرةً بكتبٍ تمَّ اختيارها بعنايةٍ دقيقة. وبعد تصفُّح بعض الملفَّات، اعتذر بلباقةٍ ناصعةٍ عن أنَّ ما لديه من صورٍ يبدأ من بعد عهد الملك عبد العزيز، ويختصُّ تحديدًا بعهد الملك فيصل وما بعده. ومع ذلك فقد أبدى بكلِّ أريحيَّةٍ استعداده للعون بما يستطيع حيال الأرشيف والكتاب مضيفًا أنَّ أيَّ تساؤلٍ هو على مرمى «إيميل» فقط، وأملاني عنوان بريده الإلكتروني. وأظنُّه لاحظ علامة استغرابٍ على وجهي، إذ لم أتوقَّع أنَّه يتعامل مع التَّقنية التي كانت حديثةً آنذاك، فأسهب في تأكيد ذلك بمتابعته لما يجري في العالم من خلال الإنترنت، وأنَّه يتعامل شخصيًّا مع الـ»إيميلات» التي ترِدُه. وعند مغادرتي خطا خطواتٍ معي إلى الباب عارضًا بلطفٍ كريم» «جلستنا يوميَّة قبل الظُّهر عدما لا أكون في سفر.. مُرْ علينا حين تكون في جدَّة». شدَّ على يدي مودِّعًا، وخرجت بسرورٍ بمعرفته تجاوَز الأسف على عدم وجود صورٍ لديه عن الملك عبد العزيز وعهده.
لم أُثقل عليه بالمرور، ومرَّت سنوات حتى حان العمل على الكتاب المصوَّر عن الملك سعود رحمه الله، والمصاحب لندوة «الدَّارة» العلميَّة عن تاريخ الملك سعود (عام 1427). تمَّ التوقُّف عند صورةٍ مهمَّةٍ هو مصدرها، لمعرفة الشخصيَّات الظَّاهرة فيها. أرسلتُ له الصُّورة واتَّصلت به. عتب قائلاً: «ماشفناك.. ما بتجي جدَّة!»، وأملاني الأسماء التي تعرَّف عليها، وحين ذكرتُ له أنَّ أحدهم رأى أن الشَّخص الثَّاني من اليمين في الصفِّ الأول هو الشَّاعر الشَّيخ أحمد بن إبراهيم الغزَّاوي، ضحك مبيِّنًا: «أنا أعرَف بأبي منه.. هذا الوالد السيِّد عبد الوهاب نائب الحرم، وبعده الشَّيخ عبد الله الشَّيبي»، وذلك بالطَّبع مع الشخصيَّات الغنيَّة عن التَّعريف.
مرَّ بعض الوقت، واتَّصلتُ وحصلت على موعدٍ لزيارته. كانت تلك المرَّة مفعمةً بأملٍ أكبر، إذ العمل على الكتاب المصوَّر عن الملك فيصل، والمصاحب لندوة «الدَّارة» العلمية عن تاريخ الملك فيصل (عام 1429). استقبلني بترحابٍ في البهوِّ الدَّاخليِّ أيضًا، واستكمل حديثًا مع ضيفٍ كان قد سبقني. لا أذكر تفصيل الموضوع ولكني أتكَّر أنَّه توقَّف لحظةً عند اسم شخصيَّةٍ مسؤولةٍ في مكة المكرمة لم يستطع تذكُّر اسمها. التفت إليَّ وإلى الضَّيف ولم يجد عند أيِّنا إجابة. ولظنِّي أنَّ اسم الشخصيَّة لا يؤثِّر على الموضوع اقترحتُ أن يكمل، ولكنَّه ردَّ مبتسمًا: «إذا ما عرفته ما حيجيني نوم». أمسك بسمَّاعة الهاتف واتَّصل بمن اعتقد أنْ سيعينه على التذكُّر وللأسف لم يفعل. أطرق لحظةً ثم صاح منتشيًا: «هو فلان» ثم أكمل سرد الموضوع من خلال ذاكرةٍ بالغة الدِّقة والعناية.
غادر ضيفه، فدلفنا إلى مكتبته، وأخذ يخرج ملفًا تلو الآخر، عارضًا معلومةً أو صورةً أو وثيقة. وتشعَّب الحديث إلى كثيرٍ من الموضوعات والذِّكريات، وأشعرَني للحظةٍ أنِّي رغم بون السِّنِّ، قد اقتربت منه حدَّ الصَّداقة وحدَّ العمر. كانت لديه قدرةٌ فائقةٌ على جذب الانتباه وسرد التَّفاصيل في تفاعلٍ مع كلِّ حرف. وكانت لديه ذاكرةٌ حادَّة تستقطبُ استكمالَ الصُّورة وعرْض القصَّة حتى تخرج بأفضل شكل. تحدَّث عن مكة المكرمة والطائف والرياض، وعن حكايات ٍفريدة مع بعض الملوك والرؤساء، وعن نشأة جهاز المراسم الملكيَّة والشخصيَّات التي استقطبها إليه. وحين يأتي الحديث عن ملوك المملكة كان الإجلال بوطنيَّةٍ غامرةٍ هو المسيطر مع خصوصيَّةٍ لما يتعلَّق مع الملك فيصل بحكم العلاقة الشَّخصيَّة المبكِّرة معه.
سألته لم لا يكتب مذكِّراته، فأجاب: «طبيعة العمل وأمانته لا تسمح. ما يمكن قوله يعرفه النَّاس، وبعض ما يود النَّاس معرفته، لا يمكن قوله». جادلته برجاءٍ بأنَّه يمكن على الأقل اختصار الذِّكريات في الجوانب الاجتماعيَّة والإنسانيَّة والعمرانيَّة، وأنَّ حجم ما يظنُّ أنَّ النَّاس يعرفونه قد يكون أقلَّ ممَّا اعتقد. بعد لأْي، وعد بالتفكير في الأمر، لا أدري هل عن قناعةٍ لو عابرة، أو لقفل الموضوع.
خلال البحث معه وسط الصُّور.. دار حديثٌ عن سموِّ الأمير (الملك سلمان)، حفظه الله الذي كان مركز إحدى الصُّور. التفت إليَّ قائلاً إنَّ الملك فيصل قال له يومًا: «إنه يرى الملك عبد العزيز في الأمير سلمان». قلت له سأنقل ذلك عنه، وأشار لي بأن «افعل»، وفعلت بتاريخ 10 جمادى الآخرة 1428(25 يونيه 2007م).
... ... ... ... ...
* رئيس المراسم الملكيَّة السعوديَّة الأسبق، انتقل إلى رحمة الله في 28 شعبان 1443هـ.
** **
- د. زاهر عبد الرحمن عثمان