د. تنيضب الفايدي
يقول الله تعالى {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ...}، ومن تلك الآيات بئر زمزم، وهو الماء المبارك الذي فجره الله سبحانه وتعالى لنبيه سيدنا إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو طفل رضيع، ولأمه الطاهرة هاجر عليها السلام في واد غير ذي زرع أي: مكة. وبعد ظهور زمزم أصبحت الحياة ممكنة في هذا الوادي غير ذي زرع، وأصبحت القوافل المارة ترد عليها، وهكذا نشأت مدينة مكة، ومع مرور الزمن أصبحت مركزاً تجارياً مهماً، وقد ساعد في هذا موقعها الجغرافي المتميز وأمنها وأمانها، ووفود الناس إليها.
تاريخ بئر زمزم
أول من أظهرها الأمين جبريل عليه السلام سقياً لإسماعيل عليه السلام عندما ظمأ، فبعد أن نفد ما كان عند أم إسماعيل عليهما السلام من الماء والطعام، أصبحت تجري ما بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء فإذا بجبريل عليه السلام يفجر نبع الماء من تحت الطفل الصغير، فشربت منه، ولو لم تحوض عليه أم إسماعيل لكانت عيناً تجري، كما رواه البخاري. وقيل: إنها سميت زمزم لأنها زمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يميناً ويساراً، ولو تركت لساحت على الأرض. وذكر الفاكهي أن الخليل عليه السلام حفر زمزم بعد جبريل عليه السلام ثم غلبه عليها ذو القرنين. وقد غيبت بعد ذلك زمزم لاندراس موضعها، ثم منحها الله تعالى عبدالمطلب فعرف موضعها، فلم تزل ظاهرة حتى الآن.
وزمزم كان هدية من الله سبحانه وتعالى لبني إسماعيل وللعرب والمسلمين، وظلّت زمزم بعد ذلك سقيا عبر آلاف السنين، حتى كان أيام إياد بن مضر، دفنت جرهم زمزم عند رحيلها، قبل استيلاء خزاعة على الحكم بالبلد الحرام، فلم تزل زمزم غير معروفة المكان حتى حفرها جد النبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب بن هاشم.
وقد تعززت منزلة عبد المطلب شيخ بني هاشم بعد حفر البئر المباركة، واستقرار إمدادات الماء الطيب الزلال الذي لم يُمنَع منه أحد من سكان الحرم أو زائريه، حتى لقد أغنتهم زمزم عن جلب الماء إلى الحرم من الآبار الأخرى في خارج الوادي، وبذلك بلغت مكانة عبد المطلب بن هاشم شأناً لم يدانِه فيه أحد. وفي ذلك يقول مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس:
ورثنا المجد عن آبا
ئنا فنما بنا صَعَدا
ألم نسقِ الحجيج وننحـ
ـر الدّلافة الرّفدا
ونُلقى عند تصريف المنا
يا شدّداً أبداً
فإن نهلك فلم نملك
ومَنْ ذا خالد خُلّدا
وزمزم في أرومتنا
ونفقأ عينَ مَنْ حسَدا
موقع بئر زمزم
تقع بئر زمزم جنوب شرق مقام إبراهيم على بعد 20م شرق الكعبة المشرفة محاذية لبابها، ويتم تغذيتها من ثلاثة جهات رئيسة، إحداها من جهة شمال غرب، والثانية من جهة الشرق، والثالثة من جهة الجنوب.
أسماؤها
لزمزم أسماء كثيرة، نقل ابن منظور في لسان العرب عن ابن بري اثني عشر اسماً لزمزم، فقال: «زَمْزَمُ، مَكْتُومَةُ، مَضْنُونَةُ، شُباعَةُ، سُقْيا الرَّواءُ، رَكْضَةُ جبريل، هَزْمَةُ جبريل، شِفاء سُقْمٍ، طَعامُ طُعْمٍ، حَفيرة عبد المطلب». وقد ذكر لها الفاسي فوق الثلاثين اسماً. وهذه الأسماء الكثيرة ترجع إلى الصفات المتعلقة بماء زمزم أو بئرها، وعلى كلّ حال فإن كثرة الأسماء للشيء تدل على عظم شأنه وفضله.
فضائل ماء زمزم وفوائدها
لزمزم فوائد وفضائل وخصائص مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها: «خير ماء على الأرض: ماء زمزم». كما أن ماءها مبارك وفيه شفاء، وفي حديث طويل لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه حين جاء إلى مكة ودخل الحرم، وبقي ثلاثين يومًا، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «متى كنت هنا؟ قال: قلت: قد كنت ههنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟ قال: قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عُكَنُ بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، قال صلى الله عليه وسلم: إنها مباركة، إنها طعام طعم» رواه مسلم.
جعل الله تعالى في ماء زمزم غاية البركة، فهو أفضل ماء موجود في الدنيا، مجّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزاد بركة على بركة، فهو طعام طُعم، وشفاء سقم، بل هو لما شرب له وأنه يطفئ الحمى. وقد غسل صدر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الماء عدة مرات، مرة عندما كان غلاماً لدى حليمة السعدية رضي الله عنها،كما رواه مسلم. ومرة في مكة عند ما صعد إلى السماء، والحديث بطوله في قصة المعراج.
من خصائص هذه البئر أيضاً أن ماءه قلوي، فيه الكثير من المعادن التي يحتاجها الجسم كالكالسيوم، والمغنيسيوم، والصوديوم، كما أنه أقلّ أنواع الماء احتواء على الرصاص، والزرنيخ، والسيلينيوم، وغيرها من المواد الضارة للجسم، وهي ماء خالية من الجراثيم تماماً. ولاعتبار هذا الماء قلوياً فإن هذا يعني أنه قادر على إمداد الجسم بطاقة كبيرة، ويساعد في الانتهاء والتخلص من فضلات الجسم الحمضية، وهو أيضاً مضاد للأكسدة، ويساعد في الانتهاء والتخلص من سموم الجسم، كما أنه يساعد في زيادة تنظيم عمل الأمعاء والتوازن في الجسم، كما أنه قادر على تدمير الخلايا السرطانية.
صفة بئر زمزم وذرعها
ذكر الأزرقي واصفًا بئر زمزم في عصره قائلاً: «كان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعًا، وفي قعرها ثلاث عيون، عين حذاء الركن الأسود، وعين حذاء أبي قبيس والصفا، وعين حذاء المروة».
أما عن ذرع بئر زمزم فيقول الأزرقي: «أنا صليت في قعرها، فغورها من رأسها إلى الجبل أربعون ذراعًا (22.45م)، ذلك كله بنيان، وما بقي فهو جبل منقور، وهو تسع وعشرون ذراعًا (16.28م)... وعلى البئر ملبن ساج مربع فيه اثنتا عشرة كرة يستقى عليها.
الرحالة وبئر زمزم
وقد وصل الرحالة السويدي عبد الله بن حسين البغدادي إلى مكة للحج وذكر الكعبة والملتزم وبئر زمزم وغيرها، حيث يقول: «وأتيت المقام وصليت فيه ركعتي الطواف، ودعوت كالأول وتضعلت ماء زمزم، وسألت الله عدة أشياء؛ منها المغفرة ودفع عطش يوم القيامة.
ويقول أولياء جلبي: «وبئر زمزم يقع في وسط هذا البناء العالي، وعلى فوهة البئر فم من الرخام الأبيض في قد الرجل، ويحيط به أو محيط البئر يحيط به اثنا عشر رجلا.. وحول فوهة البئر سوار من الحديد دائراً ما دار، ولأن الناس تسحب منه يومياً مئات الآلاف من دلاء الماء نهاراً وليلاً منذ أن كان، ولو لم يكن من الحديد هكذا لتفتت فوهة البئر. ومنذ أن عرف وقد وضعوا على فوهة البئر هذا الحديد. ويقف أربعة رجال شداد فوق الفوهة، وعن طريق البكرات الموجودة في جهاتها الأربع يسحبون الدلاء.. وهكذا ليلاً ونهاراً يدب العمل والحركة لإخراج ماء زمزم لسقاية حجاج بيت الله الحرام، والحجاج أيضاً يشربون من ماء زمزم حتى يذهب الظمأ.. ويتلون هذا الدعاء وهم يشربونه: (اللهم ارزقني علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاء من كلّ شيء...). ويشربون بنية صفاء القلب والشفاء من كل داء ودفع العطش وبعدها يصبون الماء».
عمارة بئر زمزم
قد عني الخلفاء والملوك والحكام على مرّ العصور ببئر زمزم عناية كبرى، فقاموا بعمارتها، وأدخلوا عليها من التحسينات ما يليق بمكانتها. وقد سجّل لنا التاريخ ما حظيت به بئر زمزم من الاهتمام في فن عمارتها قديماً، حيث ينقل لنا الأزرقي شيئًا من ذلك قائلاً: «وأوّل من عمل الرخام على زمزم وعلى الشباك وفرش أرضها بالرخام أبو جعفر أمير المؤمنين في خلافته، ثم عملها المهدي في خلافته، ثم غيره عمر بن فرج الرخجي في خلافة أبي إسحاق المعتصم بالله أمير المؤمنين سنة عشرين ومائتين، وكانت مكشوفة قبل ذلك إلا قبة صغيرة على موضع البئر، وفي ركنها الذي يلي الصفا على يسارك كنيسة على موضع مجلس ابن عباس رضي الله عنه، غيرها عمر بن فرج فسقف زمزم كلها بالساج المذهب من داخلها، وجعل عليها من ظهرها الفسيفساء، وأشرع لها جناحاً صغيراً كما يدور تربيعها، وجعل في الجناح كما يدور سلاسل فيها قناديل يستصبح فيها في الموسم، وجعل على القبة التي بين زمزم وبين بيت الشراب الفسيفساء، وكانت قبل ذلك تزوق في كل موسم، عمل ذلك كله في سنة عشرين ومائتين».
بئر زمزم وعهدنا المبارك
أما بئر زمزم في العهد السعودي الزاهر، فقد كان إلى وقت قريب تُستخدم الدلاء لاستخراج ماء زمزم من البئر، حتى أمر الملك عبد العزيز رحمه الله بتركيب مضخة عام 1373هـ تضخ ماء زمزم إلى خزانين علويين من الزنك، ووُصِّل بكل خزان اثنا عشر صنبوراً موزعة حول البئر؛ لاستخدامها إلى جانب الدلاء حسب الرغبة، ثم أزيلت المباني المقامة على البئر.
ونظراً لازدحامه الشديد حتى مع قلة أعداد الحجاج آنذاك والذي يمثل خطراً على الأرواح، وقد مرّ (الكاتب) بخطورة الزحام عام 1381هـ عندما كان صبياً لكن الله أنقذه من ذلك الموقف، ففي سنة 1382هـ صدر الأمر السامي الكريم من الملك سعود بتوسيع المطاف، فخفضت فوهة البئر أسفل المطاف في قبو عمقه (2.7)م، يتم النزول إليه بدرج ينقسم إلى قسمين: أحدهما للرجال والآخر للنساء، وبهذا تكون قد انتهت مرحلة الدلاء نهائيًا، واستبدلت بالصنابير، وتم تطوير البئر إلى أبدع ما يكون، وبإزالة مبنى زمزم مع المقصورة وباب بني شيبة، أُنْقِذَتْ كثير من الأرواح التي كانت تزهق في كل عام. وأصبح المطاف بشكله الحالي منذ ذلك الوقت.
وفي عام 1399هـ صدر أمر الملك خالد رحمه الله بتنظيف بئر زمزم على أحدث الطرق وهو أكبر عملية تنظيف للبئر، حيث تم بواسطة غواصين متمرسين، وكان هذا العمل من أعظم أعمال التنظيف في تاريخ بئر زمزم، ونتج عنه أن فاضت البئر بفضل الله بماء أغزر مما كان بكثير.
كما تم في عام 2010م إطلاق مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمه الله) لتعبئة وتنقية مياه زمزم آلياً والذي يغذي الحرم المكي والمسجد النبوي وراغبي الحصول على مياه زمزم المباركة من سكان وزوار البيت العتيق من الحجاج والمعتمرين.
وفي عام 1424هـ تم إغلاق مدخل بئر زمزم الموجود في صحن الحرم بشكل كامل من المطاف في التوسعة الأخيرة الحالية للمسجد الحرام، وذلك لزيادة مساحة الطواف حول الكعبة.
وحالياً تتولى إدارة سقيا زمزم بالمسجد الحرام منذ إنشائها عام 1400هـ الإشراف على بئر زمزم وتوفير مياه زمزم المبردة والعادية في الحافظات (الترامس)، وتعمل على نظافتها، وتزويدها بما يلزم من الأكواب البلاستيكية، كما تقوم بنظافة وغسيل المشربيات والأكواب المعدنية ومتابعة درجة البرودة في المشربيات.
وحرصاً على نظافة مياه زمزم وخلوها من الملوثات أمَّنت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي مختبراً لتحليل مياه زمزم يتولى الإشراف على جميع مراحل تعقيم مياه زمزم، وكذا متابعة ملء سيارات الصهاريج الناقلة لمياه زمزم والمخصصة للمسجد النبوي الشريف، حيث يزود المسجد النبوي بمياه زمزم على مدار الساعة من محطات التعبئة بسبيل الملك عبد العزيز بكدي.
وهكذا تروي بئر زمزم الحجاج وكلّ من أتى إليها منذ أن أذن نبي الله إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج إلى يومنا هذا، حيث تضخ الماء بمعدلات مختلفة وفقاً لطرق استخراج المياه.