اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من يلقي نظرة فاحصة على الحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا يجد أن هذه الحرب لم تعد محصورة بين روسيا وجارتها الحدودية، بل أصبحت حرباً بين الشرق والغرب، حيث خلطت الكثير من الأوراق الجيوسياسية وألقت بتبعاتها وما يترتب عليها على النظام العالمي والعلاقات الدولية، كما أيقظت التهديد النووي من سباته بشكل يغير مفهوم الردع وينال من قيوده ويتجاوز حدوده، جاعلة من أوكرانيا مسرحاً لصراع دولي يتداخل فيه العامل الأمني مع العامل الاقتصادي إلى درجة يصعب معها التحكم في الآثار الناجمة عنها، والأضرار المترتبة عليها.
وشراسة هذه الحرب وطبيعتها المدمرة تعود إلى الكثير من الاعتبارات الأمنية والاقتصادية والسياسية، وما قد يتداعى لها من تداعيات وتؤول إليه من مآلات، يدخل معها العالم في صراع مفتوح يقود إلى ما يقود إليه من نتائج كارثية ونهايات غير محسوبة، حيث إن هذه الحرب يخوضها دولة كبرى ضد دولة كانت في الماضي جزءاً منها، وأصبحت في الحاضر خنجراً في خاصرتها، ومعول هدم لقوميتها وكياناتها الثقافية والتاريخية والجغرافية بعد أن أظهرت قيادة هذه الدولة السياسية الرغبة في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وما يعنيه ذلك من توسع الحلف إلى الشرق على نحو يهدد أمن روسيا تهديداً مباشراً ينال من قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، ويسلبها مكانتها الدولية، ويجعل أمنها القومي في مهب الريح كما تقول موسكو.
ومن الواضح أن روسيا غزت أوكرانيا ولها هدف إستراتيجي قريب وآخر بعيد، فالهدف القريب هو توسيع سيطرة موسكو والجماعات الانفصالية الموالية لها لتتم لها السيطرة على مناطق شرق أوكرانيا، وهذا الهدف يتطلب القيام بعمليات عسكرية للتوغل والسيطرة، وبالتالي تقسيم أوكرانيا إلى شرق موال لروسيا توجد فيه الثروات والخيرات ووسائل المواصلات البحرية، والقسم الثاني عبارة عن غرب متهالك ضعيف يسيطر عليه الموالون للغرب.
وفرض أمر واقع من هذا النوع يفسح المجال لروسيا لمواجهة توسع حلف الأطلسي شرقاً، ويعزز موقفها في أي مفاوضات في المستقبل مع الأخذ في الحسبان أن هذا الهدف الأدنى لا تراجع عنه ولا مساومة عليه بالغاً ما بلغت الضغوط السياسية والمحاولات الغربية.
والهدف البعيد يتضمن نزع سلاح أوكرانيا وتدمير قوتها العسكرية وتقويض البنى التحتية لهذه القوة، وتقليص الفرص أمام هذا البلد وشل قدرته في المستقبل على بناء قوته واستعادة عافيته والقضاء على من تصفهم بالنازيين مع تنصيب رئيس موال لروسيا بدلاً من الرئيس الحالي الموالي للغرب.
وفي سبيل تحقيق ذلك ونكاية بدول حلف الأطلسي التي لم تستجب لمطالب روسيا الأمنية، اختار الرئيس الروسي الخيار الصعب باللجوء إلى الحرب واعتبارها الوسيلة الوحيدة لدفع التهديد المتوقع من انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، متخذاً قرار الحرب دون مراعاته لأسوأ الاحتمالات، معتقداً تحقيق ما يهدف إليه من خلال عملية خاطفة لم يحسب حساباً لما يترتب عليها من نتائج، وما قد يطرأ عليها من تغييرات.
وكان الأولى بهذا الرئيس التريث واستخدام الوسائل المبدئية للضغط على النظام الحاكم ومنعه من الدوران في فلك الغرب، وذلك عن طريق معاقبته بإيقاف ضخ الغاز ومحاصرة المواني الأوكرانية على البحر الأسود، وتحريض الداخل ضد هذا النظام وبالتحديد الجماعات الانفصالية والنخب السياسية الموالية لروسيا ذات الانتماءات العرقية والقومية والثقافية.
والواقع أن التخطيط لحرب تتوفر لها عوامل النجاح مهما تأخر وقت القيام بها يحول دون الوقوع في الفخ المنصوب وابتلاع الطعم الأمريكي، إذ إن الدخول في دوامة الحرب يخدم الولايات المتحدة الأمريكية، والتعثر في وحلها وإطالتها يخدمها أكثر، نظراً لما يترتب على ذلك من عزل روسيا عن أوروبا وتأليب القوى الغربية عليها، وما تتعرض له من أعباء اقتصادية ومالية من جراء العقوبات المفروضة عليها، علاوة على الصعوبات التي تعانيها في مسرح القتال بسبب ما تحصل عليه أوكرانيا من أسلحة ومعدات متطورة من قبل الغرب التي من خلالها لم يكتف بإعلان الحرب الاقتصادية ضد روسيا بل أعلن حرباً عسكرية بالوكالة.
ورغم ما يتصف به هذا الغزو المدمر من خصائص فإن لكل حرب طبيعتها والكيفية التي تخاض بها تبعاً لحجم القوات التي تخوضها ونوعية الأسلحة المستخدمة فيها والمذهب العسكري الذي يعتنقه طرفا الحرب وفنون القتال المتبعة ودرجة التقنية المعمول بها ومساحة المسرح الذي تدور فيه هذه الحرب والأهداف والمهام المطلوب إنجازها، والحرب الأوكرانية ليست استثناء من هذه القاعدة.
وفي الوقت الذي يطالب فيه الرئيس الأوكراني بالانضمام إلى حلف الأطلسي ترى روسيا أن هذا الحلف تجاوز الحدود المرسومة له جيوبوليتيكياً ليشمل المجال الحيوي لها، مما يعني أن الحلف أصبح يهدد الأمن القومي الروسي مباشرة، ويضع علامات استفهام حول مستقبل الدولة الروسية الكبرى.
وحيال هذا الوضع فإن المذهب العسكري الروسي يضع خطوطًا حمراء لا يقبل المهادنة ولا المداهنة فيها إلى درجة أنه جعل السلاح النووي سلاحاً هجومياً يستخدمه مقابل التفوق الغربي في التقنية والأسلحة الذكية، محولاً هذا السلاح من وسيلة ردع إلى وسيلة قتال في أية حرب يضيق الخناق فيها على روسيا وتكون الخسارة فيها باهظة، عندئذ يحق لروسيا -كما يرى رئيسها- استخدام السلاح النووي لصد أي عدوان يقع عليها أو يهدد مصالحها مع توسيع دوائر هذا الاستخدام لكي يشمل جميع التهديدات التي تمس الأمن القومي الروسي بصرف النظر عن طبيعة هذه التهديدات، إن كانت تقليدية أو نووية.
وعقدة انهيار الاتحاد السوفيتي وهاجس الخوف من المعسكر الغربي دفعت روسيا إلى عدم التعويل على قوتها التقليدية بعد أن فقدت الكثير من قدراتها وإمكاناتها بسبب فقدان معظم مكوناتها وتفوق حلف الأطلسي عليها أفقياً ورأسياً، حيث لم يبق أمامها إلا التهديد بالسلاح النووي للتعويض عن مكانتها المفقودة.
وذلك أنها بعد أن كانت قوة محسوبة ذات بعد جيوبوليتيكي ومجال حيوي يشار إليهما بالبنان في زمن الحرب الباردة ولديها القدرة على فرض إرادتها على طيف واسع من القضايا الإقليمية والدولية، لم يعد بإمكانها الآن فرض أرادتها على الدول التي خرجت عن مظلتها وخسرت البعد الجيوبوليتيكي والمجال الحيوي.