حمّاد بن حامد السالمي
* أقصد.. أدباءنا المعاصرين الذين تأنس بهم مجالس العلم والأدب والثقافة عادة، ذلك أن لهم الكثير من القفشات والطرائف الضاحكة التي لا تنسى. إن ما يأتيه أدباء اليوم في مجالسهم ومنتدياتهم من تفكُّه وطرافة ومزاح ليس بدعًا، بل هو نهج اجتماعي قديم معروف، وخضع لعدة دراسات، وله كما نعرف مراميه وأهدافه التي لا تخفى على أحد. وقد حاول العرب قديمًا تقنين هذا الفن بحيث لا يخرج عن طوره الأدبي فقالوا في أمثالهم: (المزْح في الكلام؛ كالملح في الطَّعام).
* من حضر مجالس الأدباء والمثقفين الكبار في ندواتهم ومنتدياتهم في الطائف ومكة وجدة والرياض والمنطقة الشرقية وغيرها من المدن؛ يعرف الكثير من هذه النوادر التي لا تأتي إلا من أهل ذائقة أدبية عالية، وأصحاب أنس وفكاهة وظرف ومزاح كاسر لجدية المجالسة.
* أتممت قبل بعض الوقت؛ قراءة كتاب أدبي ظريف للدكتور عبد الله مناع رحمه الله. الكتاب عنوانه: (أمسيات الثلوثية.. المثقفون وحكاياتهم)، وفيه توثيق رفيع المستوى لمسيرة (ثلوثية محمد سعيد طيب)، التي بدأت منذ أكثر من أربعين عامًا وما زالت، ومرت بمرحلتين: مرحلة الشرفية في حي الشرفية في بداياتها، ثم مرحلة الصحافة، بعد أن استقرت بشارع الصحافة. الكتاب الذي صدر قبل عام واحد في 240 صفحة؛ يقدم صورًا مقربة لحوارات وحكايات الأدباء الذين يلتقون كل ثلاثاء في هذه الثلوثية لـ(كسر الأسبوع) كما يقولون.
* من جملة ما عرض الكتاب من طرائف أدبائنا الأجلاء؛ أن الأستاذ الأديب الناشر (عبد الرحمن المعمّر)؛ كان يحضر الثلوثية ممثلًا لأدباء الطائف، وفي زيارته الأولى لـ (ثلوثية الشرفية)؛ روى ما حدث لأحد أصدقائه وقد حضر مجلسًا مشابهًا لـ (الثلوثية)، عندما أخذ يسلم على الحاضرين جميعًا.. يدًا بيد .. مع إصراره على التقبيل العنيف لكل فرد في المجلس، فانقلب السلام إلى فوضى عارمة، مع سقوط الشيش، وانقلاب فناجين الشاي. وأخذ المعمّر يعلق ساخرًا على ما حدث لصديقه قائلًا: (إذا كان هذا هو السلام؛ فكيف تكون الحرب..؟!). وهو ما دعا أعضاء الثلوثية بعدها؛ إلى الاكتفاء بالسلام دون مصافحة، أو الاكتفاء بالسلام على صاحب الثلوثية، ليتحول هذا إلى تقليد حتى يوم الناس هذا.
* وفي صورة ظرف أدبي لا تخلو من مغزى؛ يقول عبد الله مناع رحمه الله؛ إنه قال للأمير ماجد بن عبد العزيز رحمه الله ذات مساء: إن سكان المنطقة الشمالية في المملكة؛ يشاهدون التلفزيون الأردني، وسكان المنطقة الشرقية يشاهدون التلفزيونات الخليجية، وسكان المنطقة الغربية يشاهدون التلفزيون المصري، وسكان جازان والمنطقة الجنوبية؛ يشاهدون التلفزيون اليمني، فمن لتلفزيوننا..؟ فقال الأمير على الفور: (لمن يهمه الأمر)..!!
* ثم يروي المناع رحمه الله؛ قصة إنشاء جامعة الملك سعود بالرياض، وكيف أنها بدأت بفكرة، ثم تم استدعاء واستضافة القومي العراقي المقيم في بيروت (ساطع الحصري)، الذي قدم إلى جدة، واستقبله الشيخ عبد الله بالخير رحمه الله، وهيأ له أداء العمرة حيث لم يعرف مكة من قبل، وفي حوار بينه وبين بالخير بعد عودته من مكة؛ قال الحصري: ما الحكاية..؟ قال بالخير: الملك أطال الله عمره يريد أن ينشئ جامعة. قال الحصري: جامعة.. جامعة..؟ قال بالخير: نعم جامعة. فرد الحصري قائلًا: ما دام الملك متطورًا إلى هذا الحد؛ لماذا لا يأمر بـ (إيقاف) هذه المشاوير السبعة بين الصفا والمروة التي هدت حيلي وأرهقتني..؟! فرد الشيخ بالخير مبتسمًا: هذا الأمر ليس في يده ولا يخضع لقراره، ولكنه أمر الله تعالى وفقًا لما جاء في كتابه العزيز. قال تعالى.. ثم قرأ عليه آية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ...} (158 البقرة).
* وكان من ضمن الأدباء اللامعين الظرفاء؛ الذين كانت تأنس بهم الثلوثية؛ الدكتور الشاعر السفير الوزير غازي القصيبي رحمه الله، ففي إحدى الثلوثيات التي حضرها؛ آنس الحضور بقصيدته الشهيرة التي لا تُنسى.. قصيدة (الحذاء). تلك التي كتبها في الصحافي العراقي (منتظر الزيدي). الذي وقف في مؤتمر صحافي في بغداد، وقذف بحذائه في وجه الرئيس بوش الابن في زيارته الوداعية للعراق. يقول القصيبي في مطلع قصيدته:
مت إن أردت فلن يموت إباء
ما دام في وجه الظلوم حذاء
فاضرب بنعلك كل وجه منافق
فالمالكي ونعل بوش سواء
لله أنت.. أكاد أقسم أنه
لجلال نعلك ثارت الجوزاء
في وجهك الشرقي ألف مقالة
وعلى جبينك خطبة عصماء
ما كنت قبل اليوم أعلم موقنًا
أن الحذاء لمن أساء دواء
* ومحبّر الكتاب اللطيف الظريف نفسه عبد الله مناع رحمه الله؛ كان موضوع قفشة من الكاتب الأديب عبد الله عبد الجبار رحمه الله، الذي علم أن عبد الله مناع سافر إلى اليابان، فتساءل أمام الأدباء في الثلوثية قائلًا: وكيف استقبله اليابانيون بالطول أم بالعرض..؟! في إشارة لطول المناع الشديد، ولقصر اليابانيين الأشد..!
* ومن الملاحظ أن الاستاذ الأديب الكبير أحمد عبد الغفور عطار رحمه الله؛ كان له نصيب الأسد من قفشات وطرائف ترد في مجالس الثلوثية، أو مجلس معالي الاستاذ حسين عرب رحمه الله في مكة. من ذلك أنه جاء إلى ثلوثية الطيب في جدة، وصادف أن سبقه إلى المجلس الشيخ حمد الجاسر، والاستاذ محمد حسين زيدان رحمهما الله. وأخذ العطار يسلم على الحاضرين فردًا فردًا، إلى أن وصل عند الشيخ حمد الجاسر ليقول له في وجهه متسائلًا: حمد الخاسر..؟! ولم يسلم عليه. وكاد أن ينسحب من الصالون، لولا تدخل صاحبه محمد سعيد طيب.
* أخيرًا.. كان المزاح والتفكه وما زال؛ سمة من سمات مجالس الأدباء - وحتى العوام - على كافة مستوياتهم، يأتي تحببًا أو تخففًا من الجدية في التعاطي بالكلام بين الحضور. ومع أن العرب منذ زمنهم الأول؛ كانوا يذمون المزح الفاضح الجارح، ويحذرون من الإكثار منه؛ إلا أنهم أحبوه واستلطفوه، وجعلوه لغة للتقارب بينهم. مما قال به الشاعر أبو فراس الحمداني:
أُرَوِّحُ القَلبَ بِبَعضِ الهَزلِ
تَجاهُلاً مِنّي بِغَيرِ جَهلِ
أَمزَحُ فيهِ مَزحَ أَهلِ الفَضلِ
وَالمَزحُ أَحياناً جَلاءُ العَقلِ