د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
أثار هذا التركيب ثلاث قضايا خلافية، أما أولاهما فإعراب (فارسًا)؛ إذ ذهب بعض المعربين إلى أنه حال، وذهب أكثرهم إلى أنه تمييز، وأما الثانية فاختلاف من يعدون (فارسًا) تمييزًا في عدّه تمييز مفرد أو تمييز جملة، والثالثة في اختلاف من عدّه جملة في كونه محولًا أو غير محوّل.
والقضية الأولى أمرها واضح بيّنه ابن الحاجب (646هـ) بما لا مزيد عليه قال «الأَولى فيه التمييز. وانتصابه على الحال ضعيف. لأنه لا يخلو إما أن تكون حالًا مقيدة أو مؤكدة، وكلاهما غير مستقيم. أما المقيدة فلأن قولك: لله دره فارسًا، لم ترد به المدح في حال الفروسية، وإنما تريد مدحه مطلقًا، بدليل أنك تقول: لله دره كاتبًا، وإن لم يكن يكتب، بل تريد الإطلاق بذلك. وكذلك: لله دره عالِمًا. والحال المؤكدة أيضًا غير مستقيمة، لأن الحال المؤكدة شرطها أن يكون معنى الحال مفهومًا من الجملة التي قبلها. وأنت ها هنا لو قلت: لله دره، لكان محتملًا للفروسية وغيرها، ولكان قولك: لله دره عالِمًا أو رجلًا أو كاتبًا، لا يفيد إلا ما أفاده الأول، ولا خلاف في جواز ذلك، فدل والحالة هذه على انتفاء الحال المقيدة والحال المؤكدة، وإذا بطلا ثبت التمييز»(1). وقد يكون من أعرب (فارسًا) حالًا كونه مشتقًّا، ولا يكفي هذا لأن الحال قد تكون جامدة فلا غرو أن يكن التمييز مشتقًا. قال ابن هشام «وَأما التَّمْيِيز فَإِنَّهُ يكون بالأسماء الجامدة كثيرًا نَحْو عشرُون درهما ورطل زيتًا وبالصفات المشتقة قَلِيلًا كَقَوْلِهِم لله دره فَارِسًا وَللَّه دره رَاكِبًا»(2).
وأما القضية الثانية فيفهم من قول ابن يعيش (642هـ) أن (فارسًا) تمييز جملة، قال «و(لله درُّه فارسًا) جملةٌ اسميةٌ، ومعناها الْمَدْحُ، والمراد: لله عَمَلُه. ومثلُه (حسبُك به ناصرًا)، فهذه الأشياءُ مبهَمةٌ؛ لأنّه لم يُعلَم المدحُ من أيّ جهة، فالنكرةُ فيها منصوبةٌ على التمييز، وهي الممدوحةُ في المعنى»(3). وصرح بهذا ابن الحاجب في قوله عن نوعي التمييز «والثّاني: عن نسبة في جملة، أو ما ضاهاها، مثل (طاب زيد نفسًا)؛ و(زيد طيّبٌ أبًا، وأبوّة، ودارًا، وعلمًا)، أو في إضافة مثل: (يعجبني طيبه أبًا وأبوّة ودارًا وعلمًا)، و(لله درّه فارسًا)»(4). وكذلك عدّه ابن الناظم (686هـ) من تمييز الجملة(5). وتابعه ابن هشام (761هـ)(6).
وأما المرادي (749هـ) فاعترض ابن الناظم فهو يعد (فارسًا) من تمييز المفرد، قال «لأن التمييز في نحو: (لله درّه فارسًا) و(نعم المرء من رجل تهامي) تمييز مفرد لا تمييز جملة، والمنقول عن الفاعل لا يكون إلا تمييز جملة»(7). وتابعه في ذلك الشريف الجرجاني (ت 816هـ)(8).
ولعل عده مفردًا أنهم رأوا الضمير المضاف إليه هو الفارس والفارس هو الضمير المضاف إليه، وربما يفهم هذا من نص ابن يعيش السابق «فالنكرةُ فيها منصوبةٌ على التمييز، وهي الممدوحةُ في المعنى»، ولعل القول بأنه مفرد عرف قبل المرادي، إذ نجد ابن الحاجب يدافع عن عد (فارسًا) تمييز جملة لا تمييز مفرد، قال «وتمييز المفرد أكثر فيما كان مقدارًا. وقد يكون فيما ليس إياها كقولهم: لله دره فارسًا. ولم يذكر له ضابطًا. وحقيقته أنه راجع إلى معنى الانتصاب عن الجملة كما ينتصب (أبًا) في قولك: الطيبون أبًا، وإن كانت صورته صورة المفرد فهو راجع إلى معنى الجملية. لأن معنى قولك: الطيبون، طابوا أبًا. ولم يجئ التمييز فيه إلا بهذا الاعتبار، وكذلك: لله دره فارسًا، وحسبك به ناصرًا، معناه: اكتف به نصرة، وأتعقب منه فروسية، وأعظمه رجولية. والذي يبين أنه منتصب باعتبار الجملية أن كل تمييز عن معنى جملي يجوز فيه الجمع والإفراد إن كان المعنى يحتمله. وكل تمييز عن مفرد لا يجوز فيه إلا الأفراد كـ(عشرون درهمًا). وهذا يجوز أن يكون جمعًا، لأنك لو قلت: لله درهم فرسانًا، لكان جيدًا. فيتبين أنه منتصب عن معنى جملي لا عن إفراد»(9).
ونجد عند المتأخرين تفسيرًا مختلفًا معتمدًا على كون الضمير المضاف إليه يعود إلى معلوم أو مجهول، قال الصبان «ونقل سم(10) عن شرح التسهيل أن التمييز بعد الضمير نحو: لله دره فارسًا، ويا لها قصةً، من تمييز النسبة إن كان الضمير معلوم المرجع نحو: لقيت زيدًا فللَّهِ دره فارسًا، وجاءني زيد فيا له رجلًا، وزيد حسبك به ناصرًا، ولله درك عالِمًا، وكذا بعد الاسم الظاهر نحو لله در زيد رجلًا ويا لزيد رجلًا، ومن تمييز المفرد إن كان مجهوله»(11).
وهذا متوقف فيه عندي فقولك (لله دره فارسًا) إن لم يعد الضمير إلى ملفوظ فهو عائد إلى ملحوظ بالقرينة الحضورية فلست تقول هذا إلا متعجبًا من مُشاهد أو كالمشاهد بذكره والثناء عليه، ولا يتصور أن يكون التعجب من مجهول. ولذلك نجد تأييد ناظر الجيش (778هـ) مذهب ابن الحاجب، قال «ولم يجعل ابن الحاجب التمييز في نحو: (لله درّه فارسًا، وحسبك به شجاعًا) مميز مفرد، قال: لأنّ المعنى فيه: لله درّ فروسيّته، فهو مثل: (يعجبني حسن زيد أبًا) والمعنى: حسن أبوّته، وإذا كان المعنى كذلك فهو من باب تمييز الجمل؛ لأنه من باب تمييز النسبة الإضافية، وكذا المعنى في (حسبك به ناصرًا): حسبك بنصرته، وفي كلام ابن الدّهان ما يعضد هذا، فإنّه قال -بعد أن نفى أن يكون هذا من التمييز المنقول، ومن الذي انتصب عن تمام الاسم في المقادير -: والذي عندي في هذا أنّ التقدير: لله درّ شجاعة زيد، ثم نقل (زيد) فجعل مضافًا إليه «در» فخرجت «الشجاعة» تمييزًا، وقام «الشجاع» مقامها توسعًا»(12).
وأما القضية الثالثة فقضية تحول (فارسًا)، فابن هشام عدّه غير محوّل(13)، ويفهم من النص في الفقرة السابقة أن ابن الدهان عدّه محولًا وإن نفى ذلك سابقًا(14).
** ** ** ** ** ** ** **
(1) ابن الحاجب، أمالي ابن الحاجب،1: 367.
(2) ابن هشام، شرح شذور الذهب، ص: 330.
(3) ابن يعيش، شرح المفصل، 2: 41.
(4) ابن الحاجب، الكافية في النحو، ص25.
(5) ابن الناظم، شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك، ص252.
(6) ابن هشام، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، 2: 301. وشرح شذور الذهب لابن هشام، ص329.
(7) المرادي، توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، 2: 733.
(8) علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، التعريفات، ص66.
(9) ابن الحاجب، أمالي ابن الحاجب، 1: 407.
(10) سم اختصار لاسم ابن قاسم العبادي 994ه. انظر: الفكر اللغوي عند الصبان في حاشيته على الأشموني (رسالة، جامعة مؤتة)، لزياد محمد سلمان أبو سمور
(11) الصبان، حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك، 2: 295. وانظر: ابن الدهان، الغرة في شرح اللمع، تحقيق: فريد الزامل السليم، ط1، دار التدمرية/ الرياض،2011م. ص447.
(12) ناظر الجيش، تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد، 5: 2359.
(13) ابن الدهان، الغرة في شرح اللمع، ص446.