الهادي التليلي
كلما هلَّ هلال رمضان، تستعيد الذاكرة الكثير والكثير من الماضي القريب والبعيد، ذكريات مع أصدقاء وأقارب، بعضهم ما زال معنا، وبعضهم الآخر رحل إلى العالم الآخر، ذكريات لم نعد نقسمها التقسيم العادي المألوف، طفولة، وشباب، وكهولة، وشيخوخة، بل صار التقسيم بحسب مقياس كورونا؛ أي ما قبل كورونا، وأثناء الجائحة، في انتظار أن يتخلص العالم من آثارها، ويصبح الحديث عما بعد كورونا.
في الحقيقة كورونا أخذت منا الكثير من الأهل والأصدقاء الذين يصعب للذاكرة أن تؤثث راهنها بغيابهم، لقد أخذت كورونا الكثير، وأصبغت رمضان بلونها الداكن الحزين، وحطمت قلوباً، ويتمت من يتمت، كورونا لم تصم خلال أي من أشهر رمضان التي عاصرتها، ومع ذلك لم تقتل فينا الحلم بمستقبل أجمل، لم تحطم فينا القلب النابض بالحب والمستنشق لنسمات الأمل.
ورمضان الذي يعتبر عندنا نحن المسلمين شهر الأشهر، وسوسيولوجياً يصبغ الحياة بممارسات وطقوس اجتماعية تفرد هذه لفئة عن غيرها، فرمضان علاقة كل واحد منا به فيها الجانب الشخصي المتقاطع بالحميمي اللافت، وأرى ذلك من نفسي، حيث إن دخول رمضان يعني بالنسبة لي فتح مكتبة كاملة من الذكريات، مكتبة تلتقي فيها ألعاب نارية، وقبلها مادة نطلق عليها في تونس الكربيل، في الواقع لا أعرف مما هي أو ما هو مصدرها، وكل ما نعرفه سواء وقتها أو حتى ذاك الطفل الذي يسكنني ويروي لي ماضي تلك الفترة، هي مادة بفعل الحرارة، تحدث شكلاً من الانفجارات البسيطة، كفيلة بأن ترفع علبة طماطم فارغة أكثر من عشرة أمتار، كانت تلك لعبتنا الليلية التي تسبقها لعبة الغميضة، وقبل الإفطار كنا في طريق المطار من مدينة صفاقس نجسد الأفلام الدينية من خلال حروب بالحجارة مع من يجاوروننا في الضفة الأخرى، وإن لم تخنني الذاكرة أحياء بعضها عشوائي وبعضها أقرب لأن يكون حضرياً، ومن بينها زنقة العربي، وزنقة الجبانة، وزنقة الشيشمة (المقصود بها الحنفية)، وزنقة السردينة وغيرها مما يفصل بيننا وبينها وادي الرمل.
الطفولة خلال رمضان تاريخها يدون خارج البيت، فالعائلة روتينها ونسقها لا يتذوق طعمها الواحد في تفرده، ربما لأن العائلة كانت فعلاً متلاحمة في خطوطها البعيدة والقريبة، فأحيانا زيادة على الوالد حسن -رحمه الله-، والوالدة الباية -أبقاها الله-، والإخوة، يندر ألا نجد الأخوال، وأحياناً تكون تشاركية أو تبادلية في الأكل بين أبناء العم، بحكم التجاور في السكن.
في الفترة اللاحقة مع تجربة الصوم، صارت الذكريات العائلية لا تقل قيمة عن الذكريات الخارجية، فكانت السهرات، وختم القرآن، بقيادة عمي محمد -رحمه الله-، وكان العالم داخل الأسرة يمنح الأفراد فرصة صناعة الذكريات، وإن كان الشارع والمجتمع الخارجي يعتبر أكثر حضوراً، خاصة في السهرات، وتجسد ذلك أكثر مع دخول المشهد الشعري والإعلامي والثقافي بالجهة، حيث صارت السهرات مع الأصدقاء الذين رحل منهم من رحل وبقي منهم من بقي،، لقد كانت سهرات منحوتة في الذاكرة والتاريخ، خاصة القافلة الشعرية الرمضانية التي أسستها في مرحلتها الأولى زمن إشرافي على نادي الشعر بصفاقس، وفي مرحلتها الثانية لحظة إشرافي على نادي الإبداع الأدبي بالمركز الجامعي لمدينة صفاقس، القافلة تجوب المبيتات والأحياء الجامعية، تؤنس الطلاب شعراً، وبعد كل لقاء هناك سهرة في مقهى الديوان، نقاش وتقييم واستعادة للطرائف على إيقاع النرجيلة والشاي الأخضر والكابوسان.
رمضان في المرحلة المهنية وما بعد الزواج، كان للزوجة ومرام ولجين مكانة خاصة في ملف الذكريات القريبة، سواء بتونس أو بالرياض عاصمة البهاء والجمال، قبلها كان ثرياً بمجالس الأنس والسهرات المتنوعة سواء في مدينة صفاقس أو جزيرة قرقتة الجميلة، وكان لأصدقائي رياض الحاج طيب، وعمر بالحاج علي، ومنصور الجمل، وراشد شعور، ووديع السيالة، ومحمد الحمامي، وفتحي بوجناح، ومراد العمدوني.. وغيرهم، مكانة كبرى في مكتبة الذكريات دون أن أنسى الراحل جمال الحشيشة، والمنجي كسكاس، شهر رمضان في ذاكرتي يعج بالمعاني، يحج بالحكايا وبالمغامرات الشقية أيام العزوبية، طبعاً إنه شهر يملأ الروح طاعة، ويملأ الذكريات معاني، وأقولها دائماً رمضان مدينة صفاقس مختلف دائماً، على الرغم من كوني كلما عدت إليها أصدم بكونها لم تعد بذاك الجمال الذي عهدته فيها، ورمضان الرياض ساحر، يجعلك تود أن يكون رمضان أشهراً لا شهراً واحداً.