مشعل الحارثي
يحل علينا هذه الأيام ضيف كريم وزائر عظيم بأعذب النسمات وأجل النفحات، وبما يحمله من فضائل غامرة ومعان سامية، وما يفتحه لنا من أبواب مشرعة لاكتساب الخيرات وحصد الحسنات وإقامة العبادات والتقرّب إلى الله بالطاعات، يأتي إلينا بعد طول غياب ليعتق النفس من أدرانها ويوقظ الروح من طول الغفلة والسبات ويعود بها لصحيح الدروب والمسارات بعد عناء الشهور ومكابدة الأيام ومجالدة قسوة الحياة.
رمضان أقبل يا لطول غيابه
بعد الفراق فيا لطيب مآبه
رمضان شهر للمكارم والتقى
والمسلمون جحافل في بابه
شهر الفضائل سابغ في جوده
عذب المراشف من شهي رضابه
أيامه خير وعطف صادق
يتلألأ الإيمان في أهدابه
فمرحباً بشهر الصيام شهر القرآن والرحمة والصبر والغفران، شهر العفو والتسامح والعطاء والنقاء والصفاء، الحاضر في أفئدة الناس ومواعيد الزمن الذي يأتي كالمجيء سرعان ما جاء وسرعان ما ذهب فلله ما أعطى ولله ما وهب، ويا حظ من استثمر أوقاته فيما أمر الله وكتب، ولمن صام شهره وقام ليله عند مولاه عظيم الفضل والأجر إذا احتسب.
بني الإسلام هذا خير ضيف
إذا غشي الكريم ذرا الكرام
يلمكم على خير السجايا
ويجمعكم على الهمم العظام
فشدوا فيه أيديكم بعزم
كما شد الكمي على الحسام
وقاموا في لياليه الغوالي
فما عاجت عليكم للمقام
يقول الإمام ابن الجوزي في بستان الواعظين ورياض السامعين (مثل الشهور الاثني عشر كمثل أولاد يعقوب، وكما أن يوسف أحب أولاد يعقوب إليه كذلك رمضان أحب الشهور إلى الله وكما غفرلهم بدعوة واحد منهم وهو يوسف كذلك يغفر الله ذنوب أحد عشر شهراً ببركة رمضان).
الصوم للحيران طوق نجاة
وطريقه الهادي إلى الجنات
وعليه معراج اليقين إلى الهدى
يمتد فوق مهالك الشهوات
ويطهر الإنسان حتى أنه
روح يكاد يضيء في الظلمات
فيه الحياة تراجعت أدرانها
وتطهرت من حماة النزوات
ومن مظاهر رمضان وصوره الجميلة ارتفاع المآذن بالنور والإيمان والتفاف الأسرة مغرب كل يوم لتناول طعام الإفطار وانتظار صوت الأذان في ترقب وخشوع وتضرع للمولى عزَّ وجلَّ.
جعلت الناس في وقت المغيب
عبيد ندائك العاتي الرهيب
كما ارتقبوا الأذان كأن جرحاً
يعذبهم تلفت للطبيب
ومن معالم رمضان أيضاً ومشاهده الروحية التي تبهج النفس وتزيدها حرصاً لأداء الطاعات اكتظاظ المساجد في صلاة القيام (التراويح) بالمصلين على اختلاف شرائحهم والتي جمع الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المصلين عليها خلف أمام واحد لأول مرة في السنة الثانية من خلافته فقال أحد الشعراء:
جاء الصيام فجاء الخير أجمعه
ترتيل ذكر وتحميد وتسبيح
فالنفس تدأب في قول وفي عمل
صوم النهار وبالليل التراويح
ومن فضائل شهر رمضان ما خصَّه الله بنزول كتابه الكريم في ليلة القدر في العشر الأخيرة من لياليه فجعل الطاعة في هذه الليلة تعادل ألف شهر مما سواها، ولهذا الفضل الكبير تزداد وتتضاعف الطاعات في هذه العشر التي أطلق العرب القدماء عليها (عشر الواوات) لأنها تقع بعد العشرين منه ولتكرار حرف الواو في تعدادها فيقولون واحد وعشرون اثنان وعشرون وهكذا إلى تسع وعشرون وكأنها إشعار وجرس إنذار بقرب رحيل الشهر ووداعه وقرب حلول عيد الفطر السعيد كما قال الشاعر ابن المعتز العباسي:
قد قرب الله منه كل ما شسعا
كأنني بهلال الفطر قد لامعا
فخذ لفطرك قبل العيد أهبته
فإن شهرك في (الواوات) قد وقعا
ومع حلول هذه الأيام المباركة فإننا لا ننسى واقعنا الإنساني وما يحدث حولنا وما حل بالمسلمين وبالعالم أجمع من ويلات وصراعات وحروب وأمراض وآفات جعلت الناس في حيرة من أمرهم مما يجري حولهم بعد أن غاب عنه العقل وتحكمت به لغة المصالح والمطامع فيخيم علينا الحزن لهذا الواقع المزرى الأليم فترتفع تلك النبرة الشاكية والدعوة الراجية بأن يصلح الله أحوال الأمة ويعيدها إلى الهدى والرشد والصواب.
رأيته اليوم يرنو في تأمله
كمن بجنبيه سر هم يفضيه
فقلت أفصح هلال الصوم عن خبر
أأنت في حيرة أم أنت في تيه؟
حرب مدمرة تجتاح عالمنا
(بين الكواكب) بالأفاق ترديه
لم ندر كيف نرد العابثين بها
وكيف يرجعهم للعقل واعيه
وبعد فهذا رمضان أقبل باسطاً ذراعيه للأوبة والتوبة واستعادة ذواتنا وأنفسنا والتسابق في فعل الخيرات والتخلّق بخلق الإسلام القويم التي ترتفع بالنفس إلى أعلى مراتب الجمال والكمال، فما أسعدنا بحلوله وقدومه أعاده الله علينا وعلى الأمة الإسلامية دوماً ونحن سعداء مكرمين وفي تمام الصحة منعمين ولوالدنا وقائد بلادنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله - وولي عهده الأمين نزف أجمل التهاني والتبريكات ونقول لمقامه الكريم كما قال أحد القدماء العرب: جمع الله لمولاي في هذا الشهر الشريف شروط أماله وأحكام أماليه في حاضر أمره وعاقبته، وعاجل دنياه وآخرته، وأبقاه لأمثاله بقاء لا يتناهى أمده في ظل عيش يرضاه ويحمده.
ليهنك أن الصوم فرض مؤكد
من الله مفروض على كل مسلم
وإنك مفروض المحبة مثله
علينا بحق قلت لا بالتوهم
فمرحباً رمضان وكل عام ونحن إلى الله أقرب وقلوبنا مملوءة بالإحسان والطاعات والمحبة والسلام.