د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ليست الأرض وحدها الكرويةَ أو مثلَ « المُحَّة في جوف البيضة» - وفق توصيف العالم الجغرافي «ابن خِرداذبَّة» من علماء القرن الثالث الهجري في كتابه: (المسالك والممالك) - بل الحياة كلها كُرةٌ ليس لها طرفٌ؛ فبدايتها هي منتهاها، وأولها هو آخرها، ونظن أننا قطعنا مسافاتٍ فإذا نحن نختتمُ الخطوات الأخيرة كما نستهلُّ الخطواتِ الأولى، ويطيبُ لنا أن نغادر ميناء الوصول لنجد أنه ميناءُ المغادرةِ نفسُه، والفارق رقمٌ اعتمرناه في التوقيع الأول فتبدّلَ إلى رقمٍ مختلفٍ في التوقيع الأخير، ويهنُ العظمُ دون أن نستعدّ، ويشيب الشعرُ فلا نستردّ، وتتبدلُ مقاساتُنا الطوليةُ والعَرضيةُ فنتكئُ على تبديلِ الملابس بدعوى البِلى، وكلنا سنبلى، وعلى التجديد ومن منّا يستطيعُ تجديدَ ما يتمنى!
** ليس أسرعَ من الحياةِ إلا الممات، وفي مدارِ الفناء لا قيمةَ للبقاء، ومع اقتناعٍ لا يمسُّه ريبٌ بحقيقة الرحيل، سواءٌ من المؤمنين بالدار الآخرة أم من الدهرانيين فالممارسةُ تقف عند سياجٍ ذهنيٍ عصيٍ على توقع الغياب أو توخيه، والأحظُّ من لا يتوهمُ أن الشمسَ تشرقُ لتراه، والقمر يسهر ليُؤنسَه، والكرسيّ لا يطيبُ دون استدارته عليه أو تمرجحه فوقه.
** حين تقاعد المذيعُ الأميركيُّ الأشهرُ (والتر كرونكايت 2009- 1916م) قبل أربعين عامًا سخرَ من نفسه فعجب من أن الشوارعَ ملأى بالحركة وقت بثِّ ظهوره في نشرة السادسة مساءً عبر محطة CBS الأميركية، وقبل أيام قيل إن الممثل الفرنسيَّ الأبرز (ألان ديلون 1935-) طلب الموتَ الرحيم من غير أن يجد في أمجاده ووسامته ما يستمدُ منه راحةَ قلبه، والعمرُ لمثلهما ممن تجاوزوا ثمانية وتسعة عقود أنموذجٌ لتقسيم مراحل الحياة التي يأذنُ بها الله سبحانه واختصَّ بعلمها للإعداد والاستعداد والقعود قبل الإقعاد.
** تخلص صاحبكم من عمله الرسميِّ قبل بلوغ سن التقاعد إيمانًا منه بما سطَّره هنا وبما كتبه وتحدث عنه في مواقعَ متعددةٍ، وبقي في الإعلام «متعاونًا» يملك حريةَ قراره من غير أن يسعى لتغييرِ هذه الصفةِ المريحة، ويتطلعُ إلى خاتمةِ نشاطه فيه قريبًا، مؤمنًا أن الركضَ في الساحةِ الإعلاميةِ - بمفاصلها وتفاصيلها - لذيذٌ لكنه «قبضُ ريح»، وكم تساءلنا عمّن أمضوا فصولَهم الحياتيةَ بربيعها وخريفها أمام شاشاتها أو خلف مايكاتها أو وسط أحبارها وأخبارها ثم لم يعد أحدٌ يهتمُّ بوجودهم واختفائهم، وكأنهم لاعبو كرةِ قدمٍ انتهت صلاحياتهم بإعفاء المدرب لهم أو تجاوزهم العقودَ المبكرةَ في سجلاتهم المَدنية.
** للإنسانِ صلاحيةٌ تنتهي فينتفي، أو ربما لتبدأَ صلاحياتٌ أخرى مع من وعى أن النجوميةَ والوجاهةَ والثروةَ والصحةَ لا تُعززُ بقاءً ولا تحجب فناءً، وليس أقسى من الموتِ قبل أوانه، ولا بديلَ سوى الوفاءِ للخطوات الأولى، والأصدقاء الأُولِ، ومراحل ما قبل التكوين، ومحطاتٍ أرهصت للتمكين، والبحثِ بدءًا ومنتهىً عما يُرضي اللهَ وينفعُ عبادَ الله.
** الخاتمةُ للأنقى والأرقى.