د.عبدالرحيم محمود جاموس
مخطئ من يعتقد أن الحروب عبر التاريخ هي حروب عبثية، أية حرب قد تقع أو وقعت أو ستقع، لابدَ أن يكون لها ووراءها أسباب ودوافع وغايات، ولها أهداف محددة، كما لابدَّ أن يترتب عليها صياغة أوضاع جديدة ونتائج معينة، قد لا تقتصر آثارها بالضرورة على أطرافها المباشرين فقط، إنما قد تصيب أطراف كثيرة أخرى.
الحروب تتنوع بتنوع أهدافها وأغراضها التي تشن من أجلها، هناك حروب دفاعية وأخرى عدوانية، والحروب تخاض عادة من أجل حماية وتحقيق المصالح الوطنية والقومية، أو لمد الهيمنة والسيطرة والنفوذ، والصراع على السلطان بين الفئات والجماعات والدول، وتأخذ أشكالاً وصورًا متباينة ومتعددة.
من أجل أن نقف على أسباب ودوافع وغايات ومآلات الحرب الدائرة رحاها اليوم في أوكرانيا، لابد من العودة إلى القرن العشرين وما شهده العالم فيه من حربين عالميتين مدمرتين، وما نتج عنهما من تغييرات جغرافية واتفاقيات سياسية، وأحلاف ومراكز قوى وأقطاب ونظم وقواعد وقوانين ومنظمات دولية..!
الحرب العالمية الأولى من 1914 إلى 1918 كانت دوافعها استعمارية توسعية بين الفرقاء والأطراف المختلفة فيها والصراع على السلطان والهيمنة والنفوذ سواء داخل أوروبا أو خارجها في أفريقيا وآسيا، التي كان من نتائجها إلحاق الهزيمة بألمانيا والدولة العثمانية، وتوقيع اتفاقات الصلح بين الأطراف حيث فرض المنتصرون فيها شروطهم المذلة على الأطراف المهزومة..
ونتج عن ذلك تقاسم مناطق النفوذ وتقاسم تركة أقاليم الدولة العثمانية بين الدول المنتصرة..
ونتج عنها نظام عصبة الأمم الذي يكرس هيمنة المنتصرين فيها.
ما أدى ومهد إلى ظهور الحركة النازية والفاشية، كنتيجة للشروط التي فرضت على الأطراف المهزومة، وما ألحقته من جرح عميق للسلطان القومي لتلك الدول، وخاصة منها ألمانيا وإيطاليا، فقد أدى ذلك إلى تأجيج المشاعر الوطنية والقومية لدى شعوب الدول المهزومة، وأدى إلى ظهور وبروز الحركات النازية والفاشية فيهما كرد فعل على ما أصابهما من جرح عميق في سلطانهما الوطني والقومي، جراء تلك الاتفاقات، فكانت تلك الاتفاقات قد أسست ومهدت وأعطت المبررات للتحضير لنشوب الحرب العالمية الثانية، من 1939م إلى عام 1945م، التي كانت نتيجتها هزيمة النازية والفاشية، وانتصار الاتحاد السوفييتي والعالم الغربي الرأسمالي الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة، من أهم نتائج هذه الحرب العالمية الثانية إنشاء هيئة الأمم المتحدة القائمة اليوم كتعبير عن نظام دولي جديد ما بعد الحرب العالمية الثانية، من أجل أن يحقق الأمن والسلم والتعاون الدولي بين أعضائها، ويحقق ويحمي مصالح المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.
كما كان من أهم نتائج الحرب العالمية الثانية انقسام العالم إلى معسكرين، شرقي وغربي.. الأول برعاية وقيادة الاتحاد السوفييتي والثاني غربي رأسمالي برعاية وقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فأصبح العالم في ظل ثنائية قطبية، تمخض عنها أحلاف عسكرية وسياسية واقتصادية أخذت الصبغة الأيديولوجية، وأبرزهما حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، ودخل الحلفان في سباق تسلح غير محدود وفي حرب باردة بين الطرفين أو القطبين، وهذا لم يحُل دون وقوع صراعات عسكرية محدودة بواسطة الوكلاء، كما مكن هذا الوضع من تأجيج حروب التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا والعمل على تصفية الاستعمار العسكري الغربي وحظيت حركات التحرر الوطني بدعم المعسكر الشرقي في مواجهة الدول الاستعمارية الغربية...
لكن سباق التسلح بين القطبين قد أنهك الاتحاد السوفييتي اقتصادياً، مما أدى إلى تداعيه، وانفراطه وانفراط عقد الدول التي تدور في فلكه، ومن ثم انفراط وانحلال حلف وارسو الذي يمثل الكتلة الشرقية السوفييتية وذلك في نهاية العقد التاسع من القرن العشرين، وبالتالي حسم الحرب الباردة لصالح الكتلة الغربية الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة، وانحسار الإمبراطورية السوفييتية إلى حدود الاتحاد الروسي.
كان من المنتظر بل من المتوجب أن تنتهي سياسة الأحلاف العسكرية والاقتصادية بعد انفراط الكتلة الشرقية الاشتراكية وتحوُل دولها بما فيها الاتحاد الروسي نحو اقتصاد السوق، ودخولها منظمة التجارة العالمية، وتراجع الأيديولوجيا الماركسية، واختفاء مبررات الصراع والحرب الباردة التي دامت قرابة خمسة وأربعين عاماً، وأن تؤدي إلى حل حلف الناتو أيضاً.
لكن الذي حصل على إثر ذلك هو استمرار حلف الناتو وتوسعته، بضمه لعدد من دول أوروبا الشرقية التي كانت أعضاء في حلف وارسو المنحل، كما أصبحت تلك الدول أعضاء في منظمة دول السوق الأوروبية المشتركة، كما أن انهيار الاتحاد السوفييتي رافقه أيضاً انهيار وتفكك الاتحاد اليوغسلافي، وتحوله إلى دويلات تدور في فلك الولايات المتحدة الأمريكية.
بناء على ذلك تكون قد سطرت الرأسمالية الغربية ومذهبها الفلسفي الليبرالي الفردي الحر بقيادة الولايات المتحدة انتصاراً ساحقاً على المعسكر الشرقي وأيديولوجيته الاشتراكية الماركسية والشيوعية، وبات العالم أمام نظام دولي جديد يتسم بالأحادية القطبية الأمريكية.
كما رسم ذلك مخططو استراتيجية أمريكا وفي مقدمتهم الرئيس نيكسون في كتابه نصر بلا حرب للقرن الحادي والعشرين، وكذلك منظرو الليبرالية الجديدة من فوكويامه وآخرين، وبلوغ المسيطرة بقيادة الولايات المتحدة دون منازع أو منافس..!
لقد أدركت القيادة الروسية جملة التحديات التي باتت تواجهها وتفرضها عليها الولايات المتحدة، التي بالغت في تحديها السياسي والاقتصادي والعسكري لروسيا، وللعالم أجمع بما فيه حلفاؤها التقليديون في أوروبا.
أمام جملة التحديات الأمنية والعسكرية والاقتصادية التي فرضتها جملة المتغيرات آنفة الذكر، عمل الاتحاد الروسي على إعادة بناء اقتصاده، وإعادة تنظيم مؤسساته الأمنية والعسكرية أمام تحدي الناتو وحلفائه.. وعمل على استعادة مجاله الحيوي الجغرافي السياسي والتاريخي، كما عمل على إقامة شبكة من العلاقات الدولية السيو اقتصادية والأمنية للحد من جموح الولايات المتحدة الأمريكية..
لقد كان سعي أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو وانضمامها إلى المنظومة الرأسمالية الغربية عسكرياً وأمنياً واقتصادياً يمثل التحدي الأبرز والأخطر للاتحاد الروسي بنظر موسكو، فكان الشعرة التي قصمت ظهر البعير، التي دفعت روسيا بوتين للقيام بما تقوم به الآن من عملية عسكرية في أوكرانيا، لما تمثله تلك التطلعات الأوكرانية كما تقول روسيا من تهديد أمني وعسكري واقتصادي مباشر للاتحاد الروسي، واستهداف لروسيا دون حساب دقيق لرد الفعل على ذلك من دولة الاتحاد الروسي، خاصة أن روسيا بوتين اليوم ليست روسيا يلتسين أو جورباتشوف في العهد السابق.. بعد أن استطاعت بناء ذاتها عسكرياً واقتصادياً.
تؤكد روسيا من خلال هذا التدخل المباشر وهذه الحرب أنها فاعل رئيس في السياسة الدولية على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، ولا أحد يرغب في استمرار الحرب أو توسعتها لأن الجميع سيكون فيها مهزوماً ولا يستطيع تحمل كلفتها ونتائجها، فلابد من التحرك الدبلوماسي والمفاوضات التي تقود إلى إنهاء حالة الحرب وحالة التأزم التي باتت تؤثر على جميع الدول دون استثناء..!
وأن يجري احترام الجميع لمصالح الجميع، والعمل على تقوية وتفعيل الشرعية الدولية واحترام حقوق الإنسان في أي مكان، واحترام القانون الدولي وتفعيل قواعده في مواجهة الجميع على أساس من العدل والمساواة، والكف عن سياسة الكيل بمكيالين، وليس تفعيل القانون الدولي على أسس مزاجية ومصلحية تكون أبعد ما يكون عن تحقيق غرض العدالة وضمان الأمن والسلم للجميع، للجميع يعني للجميع، وحل القضايا القائمة والمزمنة كافة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية بما يكفل تحقيق الأمن والسلم الدولي لجميع الدول والشعوب.