محمد سليمان العنقري
دائماً ما تكون الأحداث الكبرى التي تصنف بأنها مفصلية في تاريخ دولة أو مجتمعات أو حتى البشرية ويكون ما بعدها ليس كما قبلها والتي تسمى أيضاً بالأزمات التي تترك آثاراً بالغة لا تنتهي تداعياتها إلا بعد سنوات طويلة وينتج عنها تغييرات جذرية في مفاصل سياسات الدول واقتصاداتها وثقافات مجتمعاتها ولكن أهم ما يميزها أيضاً أنها أكبر اختبار حقيقي لجاهزية من يتعرضون للأزمات للتصدي لها، كما أنها تكشف حقيقة الالتزام بالأنظمة والقوانين والتشريعات والأعراف والتقاليد والقيم وتحديداً فإن أهم اختبار حقيقي للبشرية وما أنتجته من منظمات وما وضعته من قوانين تلك الأزمات التي تقع بين الدول وتصل للمواجهات العسكرية كحال الحرب الروسية على أوكرانيا فما زال المجتمع الدولي عاجزاً عن إيقافها وغير قادر حتى على تحقيق هدنة مؤقتة تؤسس لحل سياسي لها، لكن عند استعراض الأزمات التي واجهت العالم خلال هذا القرن نجد أنها قامت بتعرية دول عظمى ومنظمات دولية لطالما تغنت بقيمها ومبادئها، كما أظهرت هشاشة الأنظمة التجارية والمالية التي تحكم التعاملات بين الدول والأدوار المؤثرة لدول قليلة على حساب العالم وكيف تبرز المصالح الضيقة للعلن وتنسف كل الاتفاقات التي يكونون أطرافاً فيها.
فإذا نظرنا لتعامل دول الناتو بقيادة أمريكا ومعهم حلفاء آخرون مع روسيا ليس الحكومة فقط وإنما المجتمع والدولة وإرثها القديم فإن العقوبات وصلت لكل مواطن روسي، بل حتى لما أنتجه مفكروهم وأدباؤهم منذ مئات السنين عندما ألغت بعض الجامعات الأوروبية نتاجهم كمرجعية يعتمد عليها في مناهجهم. هذا بالإضافة للعديد من التصرفات الفردية اتجاه الروس بالخارج، فمن المؤكد لا أحد يؤيد هذه الحرب لكن عند النظر في مواقف الدول الغربية وكيف اعتبرت أن روسيا تقوم بجرائم حرب واعتداء على حقوق الإنسان في أوكرانيا تناسوا ما قاموا به من تدمير لدولة مثل العراق وحطموا اقتصادها ومجتمعها بناء على كذبة اعترفوا فيما بعد أنها كانت خطأ بتقديراتهم وذات الأمر فعلوه مع أفغانستان خلال هذا القرن، بينما لم تقم المنظمات الدولية بما فيها مجلس حقوق الإنسان بأي نقد أو اتخاذ مواقف ضد هذه التعديات التي أنتجت دولاً فاشلة بما في ذلك دعم مشروع الفوضى بالشرق الأوسط ونقد إيران بالعلن والتغاضي عن أدوارها التخريبية بالمنطقة، فما تقوم به يخدم مصالحهم حتى بدون اتفاق مباشر، فهم مهدوا للفوضى بحروبهم بالمنطقة، بينما يطالبون بطرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان والذي كان الأولى له طردهم بسبب ما قاموا به في دول عديدة لكن أكبر خطر ظهر للعالم ولمسه بمثال حي وكان بمثابة جرس الإنذار الذي يسمع صوته في كل مكان، الأدوات العديدة التي يمتلكونها في محاربتهم لأي دولة وظهرت بشكل واسع النطاق في الحرب الروسية على أوكرانيا.
فهيمنتهم على الأذرع المالية الدولية، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وقوتهم وتأثيرهم بالنظام المالي العالمي حيث لديهم أكبر الأسواق المالية وكذلك هم الأكثر قوة في إدارة نظام سويفت للتعاملات المالية بالإضافة لتأثيرهم في مفاصل التجارة الدولية بدلالة من وجود أكبر بورصات السلع لديهم إلى أضخم شركات التأمين والنقل وتسعير السلع بالدولار الأمريكي وكونه عملة الاحتياط الأولى بالعالم نظراً للطلب عليه في تعاملات التجارة الدولية وكذلك احتكارهم للتكنولوجيا فإن ثقة دول العالم بهم اليوم أصبحت على المحك، إذ لا يمكن الوثوق بما قد يتخذونه ضد أي دولة يختلفون معها مما يعني ضرورة أن يكون ذلك تنبيهاً يستدعي تحرك تحالفات دولية عديدة خصوصا الاقتصادات الناشئة لتقليص تأثير هذا التحكم بالعديد من الأنظمة والمنظمات العالمية من قبل دول الغرب، الذي وصل لمستوى يمثل خطورة عالية على أي اقتصاد ناشئ بالعالم، فالغرب يبحث عن بقائه قطباً أوحداً لإدارة العالم بنظام دولي جديد تقوده أمريكا وهذا ما يعني أن ما نشهده مع روسيا من مواجهة بالقوى الناعمة سينسحب على أي دولة ستنافسهم أو تتعارض مع مصالحهم كما أن هذه الأزمة أظهرت من جانب آخر خطورة ما قد تواجهه دول عديدة ومن بينها دول عربية بأمنها الغذائي التي تعتمد في وارداتها من القمح والحبوب على روسيا وأوكرانيا بنسب كبيرة جداً بالإضافة لضرورة تنمية الصناعات المحلية عربياً نظراً لتوفر الموارد المالية والطبيعية والقوى العاملة والأسواق.
كانت أزمة جائحة كورونا قد فتحت الباب على ضرورة زيادة الطاقة الاستيعابية بالدول إلا أن هذه الحرب الروسية أرسلت إنذاراً خطيراً وأكدت على ضرورة القيام بمراجعة شاملة لواقع العالم وأنظمته على مستوى المجتمع الدولي أما في منطقتنا العربية فمن الضروري أن تقود الجامعة العربية مشروعاً حقيقياً وعملياً للوقوف على المخاطر التي أظهرتها هذه الأزمة بالإضافة لأهمية دور كل دولة في هذا المشروع بالمشاركة الجماعية فيه أو بما تنفذه داخلياً من تعزيز لقدراتها واستثمار لإمكاناتها ورفع مستوى الإنتاج والتجارة البينية بين الدول العربية، فالعالم يسير نحو احتمالات عديدة في غالبيتها تبدو الصورة قاتمة والتحديات كبيرة فالمتصارعون اليوم هم من كان يعتمد عليهم العالم في دعم حفظ الأمن والسلم الدوليين من خلال عضويتهم الدائمة في مجلس الأمن وحجم اقتصادهم الضخم إلا أن البحث عن القطبية هو ما يحكم سياسات هذه الدول في وقتنا الراهن.