د.فوزية أبو خالد
لا أدري متى عرفت شريفة الكلمة الأستاذة شريفة الشملان، فهي سيدة من ذلك النوع الإنساني الذي إذا التقيته تشعر أنك تعرفه منذ الأزل لشدة ما يميز هذا النوع من البشر بثلاث علامات فارقة وليس واحدة فقط. العلامة الفارقة الأولى هي تلك النصاعة الآسرة التي تحيط بهالتها شخصية وقلم شريفة الشملان مثل نصاعة البريق في اللون الأسود ومثل نصاعة العشب بعد المطر ونصاعة اللؤلؤ قبل أن يغادر المحارة وهذه النصاعة تسري منها إلى محبرتها فلم أقرأ لها قط في مقالاتها كلمة مترمدة أو متربة أو باهتة، بل إنها حتى في كتابتها الإبداعية لأدب القصة القصيرة وبرغم ما قد يقتضيه الأدب أحيانا من دواعي الغموض والظلال فقد ظلت شريفة وفيه لعلامتها الفارقة من السطوع. العلامة الفارقة الثانية هي الدفء أول مرة التقيت بالأستاذة شريفة وجها لوجه كان اللقاء في موسم الجنادرية السنوي بمكتبة الملك عبدالعزيز، كان الوقت مساء في أحد أيام شتاء 1994م ولكنني أثناء الحديث معها أحسستُ بشمس تخرج من جهتها من كلماتها من حركة يديها وتغمر المكان بالدفء، وفي كل مرة كنتُ التقي كقارئة بشريفة ككاتبة كما يتسرب إلي من قراءة أعمالها ذلك الإحساس بدفء القلب الذي يقود ما تكتب شريفة سواء كتبت عن الحرب أو الحب أو كتبت عن الثقافة ومواضيعها المعقدة أو عن المطالب الاجتماعية اليومية الصغيرة. العلامة الفارقة الثالثة التي تميز شريفة جللها الله برحمته هي القرب أتحدث معها عبر الهاتف فأشعر كأنها تجلس قريبا مني على المقعد المجاور بطائرة أو في قطار الحياة وكأنه لا يفصل بيننا مسافة طويلة 400 كيلو ونيف وهي المسافة بين الرياض والدمام، وتعطيني شريفة نفس الإحساس الطاغي بالقرب حين تهاتفني من الدمام للندن أو من الدمام لنيويورك حيث لم تنقطع مهاتفاتنا المتقطعة في اللحظات التي أبعدتني فيها ظروف صحة أو ظروف عمل. ولطالما تميزت كتاباتها بالقرب كعلامة فارقة تميز قلمها، فهي تكتب عن قرب لافت بالناس وبأصحاب القضايا حين تكتب في القضايا الاجتماعية وتكتب بقرب شفيف حتى تحسبها تكتب عن نفسها عندما تكتب عن شخصيات قصصها على تنوعها.
* * *
2
أصدقاؤنا المشتركون
كنتُ محظوظة أن صداقة القلم التي ربطتني بشريفة قد كان لها جذور على أرض الواقع قبل أن التقي أ. شريفة كزميلة كتابة وكصديقة، فقد ارتبطت أسرة والدي لجهة والدته سارة الحسينان/ أم عبدالله بعلاقة جيرة قديمة مع بيت التركي/ أم عبداللطيف، وكان بجوارهم بيت ابنتهم عواشة/ أم محمد وكان زوجها عبدالله حمد السليمان، يوم كانت أحياء الرياض خيط من بيوت طينية متصلة في سطوحها، لصيقة في مداخلها وبرحاتها الترابية الأمامية، وقد ورثت أمي الشريفة نور الهاشمي/ أم محمد عن تلك الجيرة صداقة وطيدة بالعائلة التي تربطها علاقة نسب وقرابة بعائلة شريفة الشملان خاصة وقد خلق خليطهم الثقافي بين الزبير ونجد تمازجا مع مرجعيتها الحجازية، وكانت والدتي مثلي من عشاق قلم شريفة رحمهما الله. وقد جمعت بيننا بالإضافة لذلك عدد من الصداقات المشتركة مع التشكيلية منيرة الموصلي والكاتبة شمس العلي رحمه الله، وكذلك مع فوزية العيوني وفوزية السليمان والشاعرة بديعة كشغري والكاتبة مها الوابل ومع القريبة والصديقة الأستاذة شريفة وهي د. نورة الشملان وابنتها توأم الضمير أ. لينا السليم والقائمة تطول.
* * *
3
كتاب سيرة الأمهات
وأخيرًا لم يكن كتاب سيرة الأمهات ليكتمل بهاؤه ويكتمل هلال الأمومة فيه لو لم تشارك فيه الصديقة الكاتبة شريفة الشملان، فقد سجلت شريفة الشملان بمشاركتها مع كاتبات وكتاب سيرة الأمهات الخمسين سفرا من سيرة والدتها منيرة.. رصدت فيها الحياة الاجتماعية الكفاحية لنساء الجيل الذي لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب أسود من مواليد ما قبل حقبة النفط. وعدا عن أن أ. شريفة فرحت فرحا طفوليا صادقا بفكرة الكتاب وتفاعلت مع دعوتي لها بالمشاركة في كتاب سيرة الأمهات تفاعل من كان ينتظر مثل هذه الدعوة منذ تعلم الكتابة وكأن الكتابة عن الأم كانت الريشة الضائعة في مشوارها الطويل مع أجنحة تجربة الكتابة نفسها أو كأن الكتابة عن الأم هي منتهى الكتابة المشتهى. وقد انشغلت أ. شريفة بمتابعة تفاصيل الكتاب خطوة خطوة للحظة توقيعه لأول مرة مساء 6/ نوفمبر في الهواء الطلق على رصيف مكتبة التراثية بالرياض. وقد أتاحت لي فرصة كتاب سيرة الأمهات التعرف على جانب آخر من جوانب شخصية شريفة الشملان الحيوية وهو جانب القدرة على العمل المشترك مع الحفاظ على التفرد الذاتي.
* * *
4
واقفة على ثغرها
لقد مضت شريفة وهي قائمة على ثغرها إلى يومها الأخير، قابضة على جمر الكلمة النزيهة لآخر لحظة، فلم تنقطع شريفة عن كتابتها الأسبوعية طوال أزمة كورونا وكانت ممن تسميتهم «أبطالنا على جبهة الكتابة» مثل «أبطال الجبهات الصحية» و»أبطال المرور» و»أبطال الحدود».
* * *
5
رحلت وشمسها لن تغيب
والواقع أن شريفة لن تغيب شمسها وإن رحلت فقد تركت لنا ثروتها القلمية وتركت لنا ابنتها المنيرة قلوبا نابضة في صدورنا بعد أن سلمت الروح لبارئها وسلمت قلقها المعرفي لنا وعادت لربها بإذن الله راضية مرضية.