مبتدأ:
قد تُنشر المادة ورمضان ماضية مراكبه، لأن ذاك خاضع لـ(ظروف) النشر
نثرُ لبعض من تعبيرنا التي تميس بيننا معنوياً، لكنها تملأ منّا الزمان الذي نترقّبه بشوقٍ لا مشاحة حال قولنا فيه إنه «هبة» العام، فهو في ظرفيته ضنين..
إذ هو صاحب الامتياز بين شهور العام، والمنّة التي أكرمنا بها المنان سبحانه، لنعيد ترتيب أولوياتنا (مع) تذكيرٍ
بالتقصير الحادث واللهو العابث بجدية تعاملنا مع ديننا، ولعله - أيضاً- بمثابة استراحة من جري خلف الدنيا.. وكذا هو محطّة تزوّد لهممنا ... إلخ، فـ(رمضان) يا أحباب بعض ذلك، لا كلّه
وبالمناسبة إن أكرمك ربي ببلوغ «حكمة» ما، فانتبه لأمرين، وكلاهما فيهما أدب مع ربك،
الأوّل: أن لا تقطع بـ(صحة) تلك الحكمة، فقد يأتي في مستجدات قادمة ما لا يتفق واستنتاجك.
والآخر: أن لا تُوقف الأمر على تلك الحكمة فحسب، فهذا مركب غرور أحذر أن تمتطيه!
لأفيض.
لا ريب إن قلنا في الصيام رياض ذي الهمم، لأنه ميدان للسبق كما سيأتي، وكذا وجه من (إعداد) الذات
ليس للملمات ولا حتى للحياة، ولكن لنتاج (فوز) بالأخرى ترجوه..
وذاك الذي يستحقّ منّا كل مرصد نبلغه من أنفسنا، ومن هنا تجد القوم وهم في استقبال المواسم فرح يغمر وأنس يأخذهم لدنيا كانت عند حدودها.. يوم كانت الطاعات هي القياس وما سواها اقتباس يؤخذ على حسب ما يقوم به بناء حياتنا، كما عبّر الحديث من (... لقيمات يقمن صلبه)
فلم يكن التوسّع قد بلغ خلدنا حالة تضاءل خلفها غالب ما عهدنا أو تعاهدنا من ذواتنا إلى ربوته صعوداً.
فها هي الفرصة تأتي فيبادر لها من يُباري أمثاله، إذ فيها من سوانح الخير من أُحضر ذهنه مراقيها، وألقى لما في طيّها سمعه وهو شهيد (مبالغة) شاهد على ما لا يخفاه مما في تلكم من الهدايا.. وهبات -عطايا- ربّ البريات.
أجل يأتي «رمضان» ليملأ قلوبنا قبل طُرقاتنا بقناديل الفرح وينثر تباشير بين جانبي أفئدةً كلها زهواً لا رخو في أثيث ما تبثّ من تعابيرنا، وهي بمقدمه تتمخطر.
ولا عجب فتلكم قلوب صوّام نهاره قوّام ليله، ومن ذا الذي يرتضي عن ذلك من زخرف الدنيا بدلا؟!
ثم حسب مكانته إعلاء هممنا، والتسابق على الخيرات، بخاصّة لدى ثلّة أكّدت الآية أنهم (... لها سابقون)، إشارةً جليّة إلى أنه ليس الكل، فتلكم نوعية محددة، ألا فـ(أظفر) أن تكون منهم
نُصح أُرسله لنفسي ابتداءً.. وأن عسى يصغي له فؤادك، مشيداً لا مشدداً بذاك المتسابق الذي لا يتثاءب، وهذا القمين بكل واعٍ، إذ الزمن قصير جداً، كما عبّرت عنه الآية {مَّعْدُودَاتٍ} في حسبانا لكرّ الليلي والأيام، وأهل نجد قالوا (ياسرعها على الصحيح المعافى)..
وإن زعم لنا الظن الذي يعمه في مطلع الشهر أنها عديدة، ولكن في غمضة عين.. إلا وانتصف، ثم غمضةً للأخرى فإذا توديعه أوشك! وهنا قد تحسب (نظم):
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها
عن الحلم بعد الجهل (أسبلتا معا)
في سُكبتا بذات المعنى، وهل من حلم، أو تعقّل.. ودنيانا تلفّ بعمرنا؟ فكيف بشهر هو من خيرة شهور العام، وبدر نجوم السنة، ومما قيل عندئذ «بالأمس كنا نقول رَمضان أهلاً، والآن نقول رمضانُ مهلاً! فما أسرعَ خُطاك يا رمضان؛ إذ تأتي على شوقٍ ثم تَمضي على عجل، فسبحان من وصفك بـ{أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}، كأن لتعي أنه فرصة (تتكرر) بفضل الله كل عام.. نعم، وهذا من عميم فضل ربنا - علينا-، فتصوّر لو قيل لكسلان لا تضجر فالفرصة لا تزال مواتية، وإن.. ولّت، فبرهة -من أشهر- ستعود، لكنّ عودتها وهذا «مربط الفرس» موقوفة على (مسافة عمرك)، فما يدريك أنك من أهل -فرص- الأعوام القادمة؟!
ليحضر التشديد على الأخذ بزمام (المبادرة)، فإن لم يطوك الأجل فقد تنخر منك القوى..
أو قد لا تلفى فراغك معين على ما تتمنّاه لذاتك يومها، وبمعنى سُبق إلى جلائه الفضلاء (خذ من صحتك لمرضك)..، وهذا - الأخيرة- إن لم يزوّدك بها (المربّي)، فلن يزيدك درسه غير تخسير..
إذ كم ممن عاودته الفرص، لكنه لم يكن مستعدّاً، فإما ليس بصحّة تعين، أو فراغٍ عليه يتكئ، وتدبّر: (فمن شهد) أي حضره.
وقد شرحها الطنطاوي -رحمه الله - في تفسيره «الوسيط» أن في قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يصح أن يكون شهد بمعنى (حضر)، كما يقال: فلان شهد بدراً، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: حضرها، فيكون المعنى: فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن كان مقيماً وليس عنده ما يمنعه من الصوم كمرض ونحوه، فليصمه؛ لأن صيامه ركن من أركان الدين، وعليه يكون لفظ «الشهر» منصوباً على الظرفية.
ويصح أن يكون شهد بمعنى (علم) كقوله -تعالى - {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فيكون المعنى: فمن علم منكم هلال الشهر وتيقن من ظهوره فليصمه).
كذلك نلفى كلمة (فليصمه) أي يحرم عليه أن يفطر، وإن أفطر لغير عذر شرعي كان من الخاسرين في الدنيا والآخرة، لما صح من حديث عند الترمذي والنسائي وابن ماجه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض، لم يقضه - أي لم يجزه - صوم الدهر كله وإن صامه»، أي: لو حصل منه صوم طول حياته فلن يدرك ثواب ما (ضيّع) بسبب فطره بغير عذر شرعي، ولا غرو..
كم (فرصة) ذهبتْ فعادت غصة تشجي بطول تلهف وتردد، فالفرص تمر مَرّ السحاب..، ومن كلمات بهنّ تفريق لأديبنا عبد الله الجعيثن (ليس صحيحاً أن الفرص قليلة في هذه الحياة، الصحيح هو أن الصبر على العمل الجاد قليل..) إذاً هنا الفيصل بين جاد مسارع، وآخر وادع خلف رغائبه النفس يمنّي.. والأيام في الطلبِ!
بالذات ممن تمنّى فبلغت به الحال رامساً -تحت الثرى-، إذ سبق إليه الأجل (وهذه قاصمة الظهر)!
وأقصد أن تنتهي بحبائل مناه المرء فقط أن يعدْ نفسه على رجم بغيب لم يؤت موثقاً - من ربّه-أنه سيبلغه!