سعد بن دخيل الدخيل
الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، رجل زعامة ومهابة، وقائد بالفطرة، ودانت له الأرض وخضعت، وهذه القوة في الشخصية، وكاريزما الحضور لديه، والشجاعة والإقدام، والفكر السياسي والإداري، جميعها زوايا مهمة من شخصيته الفذة، كتب عنها الكثير ولازالت حقولاً خصبة للمؤرخين والكتاب والمثقفين.
واليوم دعونا ننظر من زاوية مختلفة لنرى شخصيته في رمضان، ونغوص في إيمانياته وأفعاله الخيرية ومواقفه وأعماله التي أنجزها في رمضان أو أن لرمضان بها علاقة، ومن أهم الأحداث والمواقف التي يمكن تناولها اليوم أحداث استرداد الرياض، فعندما بلغ الملك عبد العزيز سن العشرين من عمره وهو في الكويت، توجه في الخامس من شهر رمضان عام 1319هـ إلى الرياض في رحلة بطولية قاد مسيرتها بصحبة 63 رجلًا، ليتمكنوا بفضل الله تعالى من اختراق جوف الصحراء، وصاموا رمضان في واحة «يبرين» في الأحساء، وساروا في نهاية ذلك الشهر إلى الرياض وتم استعادتها بأن الملك لله ثم لعبد العزيز، حتى سمي عيد الفطر بالعيد الذهبي كونه ذكرى فتح واسترداد الرياض وبداية حضارة الدولة السعودية الثالثة.
ويظل خبر دخول رمضان قديماً وحديثاً له أهمية ووقع في النفوس، ففي يوم الجمعة 2 - 9 - 1343هـ الموافق 27 - 3 - 1925م نشرت أم القرى في عددها رقم 16 خبراً في قسم حوادث محلية يقول: «هلال رمضان المبارك ، رؤي هلال رمضان المبارك مساء الأربعاء ليلة الخميس، وقد شاهده جمع عظيم من الناس فكان أول رمضان أمس الخميس، وقد ضربت ستة مدافع بعد الغروب إعلاماً للناس برؤية الهلال، نسأل الله أن يعيد هذا الشهر المبارك على الإسلام والمسلمين وهم رافلون بثوب العز والفخر والسؤدد إنه على ما يشاء قدير».
يقول أحمد علي بن أسد الله الكاظمي في مذكراته (وكان يعمل في مدرسة الأمراء بالرياض لمدة تقارب 17 عاماً من 1356هـ حتى 1373هـ) عن أحداث يوم الخميس 30 من شهر شعبان 1356هـ : « غربت الشمس وأخذ المؤذنون يؤذنون لصلاة المغرب. والبلدة كلها كأنها في مناورة حربية عظيمة، فلا تسمع إلا دوي الرصاص من أسطح البيوت وأبراج السور بأصوات مختلفة، والناس والأهالي قد اعتادوا هذا الأمر، أما الأجنبي الذي لا يعرف هذه العادة، ثم يسمع على حين غرة هذا الرمي المتواصل فلا يظن إلا أن هناك ثورة قامت؛ أو: هجوماً حصل من قبل عدو ... وانتهت عاصفة الطلقات حوالي الساعة الواحدة [التوقيت هنا هو التوقيت غروبي أي أن الغروب دائماً عند الساعة 12]، وابتدأت طلقات المدفع وكان بين طلقة وأخرى فترة مقدارها على الأقل (5) دقائق؛ لأن المدفع واحد، ويقال يسمع من مسافات بعيدة، ويقال: إن القرى المجاورة للرياض تسمع صوته كالبديعة والدرعية. ويشترك في جر هذا المدفع من القصر إلى خارج البلدة الصبيان والخدم بأصوات وغناء، وكذلك عند إرجاعه إلى القصر، ولا تطلق المدافع بعدها إلا ليلة العيد إيذانا بثبوت رؤية شوال، أما الإفطار والسحور فليس لها مدفع ولا بندقية» يفطرون على غروب الشمس وآذان المغرب»، وتصل التهاني للملك من الداخل والخارج ويرد عليهم التهاني، ومن ذلك رده على الشريف محمد شرف رضا نائب رئيس مجلس الشورى ونصها: «نشكركم وإخوانكم أعضاء مجلس الشورى والشعب الكريم على تهانيكم بشهر رمضان المبارك، ونسأل الله أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال ، عبد العزيز». وقد نشر الرد في جريدة أم القرى في عددها 1466 الصادر يوم الجمعة 16 رمضان 1372هـ الموافق 29 مايو 1953م، ويصدر سنوياً أمر سامٍ يحدد فيه الدوام ففي عام 1352 نشرت صحيفة صوت الحجاز الأمر السامي ونصه :» يوم الاثنين 1 رمضان 1352هـ الموافق 18 ديسمبر سنة 1933م الدوام في رمضان ، صدر الأمر السامي بأن يكون الدوام في جميع الدوائر الحكومية من الساعة الثالثة ليلاً إلى الساعة الثامنة قبيل السحور [التوقيت الغروبي] لحلول شهر رمضان المبارك حسب العادة في كل عام. « كما يقول الكاظمي في أحداث ليلة أول يوم من رمضان سنة 1356هـ: «عدنا بعد المغرب إلى القصر وأذن العشاء تقريباً الساعة الثانية [غروبي]. فصلينا مع جلالة الملك المعظم في مقصورته، مع رجال الحاشية. وبعد الصلاة قام الإمام لصلاة التراويح، وبدأ بأول القرآن. ولكنيقرأ آيتين أو ثلاثاً في كل ركعة؛ حتى قضينا (20) ركعة؛ و(3) ركعات وتر، بدون أي جلوس أو استراحة بين كل ركعتين أو بين كل أربع ركعات؛ كما هي عادة الأئمة في مكة، انتهت الصلاة وقام جلالته إلى مجلس الدرس مع رجال الحاشية، وقمنا عقبهم، فمررنا في الطريق على عبد الرحمن الطبيشي وهنأناه برمضان، ثم جئنا مجلس الدرس [كان للملك عبد العزيز - غفر الله له - درس في كل ليلة من ليالي رمضان بقراءة كتاب من كتب الفقه عن أحكام الشهر الفضيل، وكان يختم الدرس بتلاوة أحد المشايخ للقرآن ومنهم الشيخ عبد الله خياط رحمه الله]، وكان القارئ قد بدأ في كتاب في فضائل رمضان والصيام وفضل العمرة في رمضان. ولما انتهى التفت جلالته إلينا وسألنا: عساكم طيبين؟ ثم قال للشيخ عبد الله أن يقرأ له شيئاً من القرآن» فقرأ الشيخ عبد الله: (شهر رمضان الذي)، ولما انتهى قام جلالته».
يقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - حفظه الله - عن والده: «لم يكن المغفور له الملك عبد العزيز أبا لأبنائه فقط بل كان أباً لكل فرد من أفراد شعبه، وذلك بحسن معاملته وعطفه، وهيناً ليناً عند مقابلة الضعفاء، إلى جانب ذلك كان مؤمناً صادق الحس دائماً»، ورغم قسوة الظروف وقلة ذات اليد وضعف الإمكانات إلا أنه رحمه الله ثابتاً وأصيلاً في أعمال الخير ولم توهنه فيها الأيام والسنون، بل بارك الله له في موارده المالية وفتح الله عليه من الخيرات جزاء ما قدم، ففي رمضان 1368هـ أمر في برقية عاجلة منه إلى عبد الله بن مساعد ومالية بريدة وابن عمار ومالية قبه بتفقد السجون وإطلاق سراح الكثير منهم، حيث قال في برقيته: « حالا شوفوا المساجين الذين عندكم واطلعوا على جرائمهم فمن كان منهم باقي عليه شيء للحكومة فقط فأطلقوه من السجن، لأننا عفينا عن حقوق الحكومة، وإن كان أحد منهم عليه حقوق للناس أو يجوز إطلاق سراحه بأمر شرع فاخبرونا به وبجرمه ويجيكم منا جواب عنه «(دارة الملك عبد العزيز وثيقة رقم 690)، وجاءت امرأة أرملة إلى الشيخ سعد بن غنيم المرواني الجهني - رحمه الله - تطلب منه أن يشفع لها عند الملك عبد العزيز لفكاك ابنها من السجن، فلما قدم بن غنيم على الملك عبد العزيز ليشفع لابنها نسي اسم ابن المرأة، لكن الملك عبد العزيز أمر بإخراج كل من ليس عليه حق في دم أو لغارم، وعفا عن جميع المساجين. وقد أطلقت قبيلة جهينة على ابن غنيم لقب (فكاك المساجين) بعد أن استجاب له الملك عبد العزيز بالعفو عن المساجين كل رمضان وأصبحت مكرمة سنوية، اتبعها واستمر عليها أبناء الملك المؤسس إلى هذا الوقت. وفي سياق الصدقات والإنفاق فقد اجتمع الملك والعلماء في رمضان 1361هـ وقرر بالاتفاق مع العلماء أخذ الزكاة من تجار وأصحاب الأموال من أهل الرياض بتقدير حالتهم، ففرضت على التجار وأصحاب الأموال مبالغ حسب ما تقدره الهيئة المكونة من بعض تجار الرياض وكتبت بها قوائم يدور بها رجل معه كاتب على أهل الأموال وهي ليست مبالغ كبيرة لتصرف على الفقراء والمساكين، ويقول الكاظمي في مذكراته عن أحداث يوم الاثنين السابع من رمضان 1362هـ: «رأيت صباحاً أما باب القصر الملكي القديم سيارات ضخمة التي وردت حديثاً، سألت رجلاً عنها فقال: هذه جاءت لتحمل من مستودعات القصر الأرز وأكياس الريالات والتمر وتذهب مع أمير يؤمر عليها أو مع أحد المشايخ إلى القرى التي حوللرياض ليبذلها على فقرائها ومحتاجيها وعلى نسائهم حسب المعتاد وحسب العادة التي سار عليها جلالته منذ السنوات الأخيرة»، كما ذكر في أحداث يوم الجمعة العاشر من رمضان من سنة 1367هـ قوله: «إذا دخل جلالة الملك المعظم من المربع إلى القصر القديم بالرياض حمل معه أكياساً من الريالات بعضها في سيارته وأكياس في سيارات وراءه للتوزيع على الفقراء والبدو رجالاً ونساء وأطفالاً يقفون على جانبي الطريق، فهو يعطيهم أي يوقف سيارته ويأمر السواق أن يوزع عليهم الريالات أو تقف إحدى السيارات التي وراء سيارة جلالته لدى محتشدات البدو ويوزع عليهم الريالات» ، كما أن الملك عبد العزيز رحمه الله يمنح أنجاله الرجال منهم والنساء مبالغ باسم الصدقات ليقوموا بتوزيعها في رمضان على من يعرفونه فقيراً أو مسكيناً أو يتيماً أو أرملة محتاجة، وكان الملك حريصاً على تعلم أبنائه، فقد أرسل رجلاً عنده يقال له شلهوب إلى الشيخ عبد الله خياط مدير مدرسة الأمراء يسأله عن نظام الدراسة في رمضان ومواعيدها اليومية، فأجابه الشيخ عبد الله أن الدراسة كما كانت لم تتغير مواعيدها، وفي العشر الأواخر من رمضان 1358هـ لم يحضر الأمراء للمدرسة فعلمت إدارة المدرسة أن الملك عبد العزيز رخص لهم نظراً لقيامهم بأداء صلاة القيام في الليل، فذهب الشيخ عبد الله ليتقابل مع جلالة الملك ويسأله حقيقة الأمر فأخبره الملك أنه رخص للكبار من عياله بمناسبة القيام، أما الصغار فقال الملك عبد العزيز بشأنهم: «أحب أستشيرك في أمرهم أننا نرخص لهم هذه العشرة أيام ليستريحوا فيها وتستريحون أنتم كذلك، وإن شاء الله بعد العيد يعودون»، وكان في كل رمضان يجمع الأمراء من أبنائه الكبار والصغار وينصحهم بالمحافظة على الصلاة جماعة في المسجد ويأخذ منهم العهود والمواثيق، ففي يوم الخميس الحادي عشر من عام 1365هـ جمعهم وكتب أسماءهم والمساجد التي يصلون فيها وطلب من كبار كل مسجد أن يلاحظوا حضورهم وغيابهم وأن يخبروا عنهم إذا غاب أحدهم ولم يحضر للمسجد، وكان يوم الثلاثاء 26 رمضان من عام 1369هـ يوم حزين على الملك ففيه فقد أخته نورة وكان حين رآها قبل وفاتها وحالتها سيئة تأثر تأثراً شديداً، فلما توفيت كان وقع ذلك عليه أشد فقد كانت من أطيب النساء وكانت صائبة الرأي يستشيرها الملك عبد العزيز في كثير من المسائل، وفي يوم الثلاثاء 23 رمضان 1368هـ الموافق 19 يوليو1949م أصدر الملك عبد العزيز مرسوماً ملياً وضع فيه الإطار العام للإذاعة، وأكد ضرورة التزام الصدق والأمانة، والواقعية، والالتزام بالموضوعية ، وعدم التعرض لأحد بالشتم أو التعريض بأحد أو المدح الذي لا محل له ، كما أكد ضرورة الاهتمام بالأمور الدينية وإذاعة القرآن الكريم والمواعظ الدينية . ومن المواقف التي تذكر في رمضان حرصه على مراجعة الملك عبد العزيز لمعاهدة الطائف مع اليمن عام 1934م والتي نصت على وقف الحرب بين البلدين واعتراف كل منهما بالآخر مع ترسيم الحدود بينهم يوم الاثنين 16 رمضان 1352هـ الموافق 1 يناير 1934م ، وفي يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة 1362هـ وصل الرياض كامل حبيشة، وهو مندوب من طرف رئيس الوزراء المصري النحاس باشا إلى الملك عبد العزيز بصدد الحركة الجديدة التي يقوم بها النحاس ونوري السعيد رئيس وزراء العراق ومندوب شرق الأردن بشأن الوحدة العربية، وقد تم اجتماعهم في مصر، وقد طلبوا من الملك عبد العزيز أن يرسل مندوباً عنه، فلم يقبل وصرح لهم أن رأيه حول فلسطين وحول الوحدة معروف، وإذا اضطروا إلى شيء أو مشورة معه في هذه الحركة فلا بأس أن يرسلوا إليه مندوباً، أما هو وحكومته فلا يحب الاشتراك في هذه الحركة. هذه بعض المواقف التي تبين مقدار ما يتميز به جلالة المؤسس من سجايا وصفات تندر في الرجال وتبين مع قوته وهيبته الوجه الرحوم والجانب الحنون وكيف أنه يرى شعبه بعين العطف. ولازال الشعب السعودي يعيش في أمن وأمان وفي حياة كريمة هانئة في عهد وقيادة ملك الحزم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، حفظ الله لنا قيادتنا ووطننا إنه سميع مجيب.