د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
فجرت الحرب في أوكرانيا، وضربات الحوثيين لمنشآت أرامكو في جدة، الحديث عن أمن إمدادات الطاقة، ولم يتحدث أحد اليوم عن التغيرات المناخية، ولم تستجب دول العالم وبشكل خاص العالم الغربي للسعودية من التوجه نحو الطاقة النظيفة بشكل تدريجي، وأن تتجه دول العالم باتباع سياسة السعودية في الطاقة التي اتبعت سياسة مزيج الطاقة، بل إن السعودية هي أول من دعا إلى استراتيجية الاقتصاد القائم على تدوير الكربون، وأقرتها في قمة العشرين عندما تولت القيادة في عام 2020 من أجل خفض الانبعاثات على خلاف نموذج اقتصاد الكربون الخطي الذي يعتمد على استخدام الموارد ثم التخلص منها، بل اعتبرت السعودية الاقتصاد القائم على تدوير الكربون ركيزة أساسية في إعادة التوازن لدورة الكربون في العالم.
يزعج الولايات المتحدة التحالف السعودي الروسي بين اثنين من أكبر منتجي النفط والغاز في العالم، لكن هذه المرة يدور التحالف حول الجغرافيا السياسية أكثر من اهتمامه بالسوق فقط، فبعد غزو أوكرانيا يظهر استقلالية قرار السعودية والإمارات عن واشنطن، وعن شرخ العلاقة الذي كان مستبعداً، باعتبار أن السعودية ودولة الإمارات عملاقا النفط الساعيان لإبراز استقلالية دبلوماسيتهما على الساحة الدولية، ولم تشترك مع إدارة بايدن الذي أزاح الحوثيين من قائمة الإرهاب منذ مجيئه من أجل توقيع الاتفاق مع إيران.
لم تشترك الدولتان مع إدارة بايدن في محاولتها خنق موسكو من الطاقة إلى الدبلوماسية، وفضلتا اتباع سياسة خارجية مستقلة قائمة على المصالح الوطنية، ولا يعني أن السعودية ودولة الإمارات تتمتعان بعلاقات مهمة مع أمريكا أن تتلقى أوامر من واشنطن بزيادة النفط، بل اختارتا الحفاظ على التحالف مع روسيا لأنها تتوافق مع استراتيجيتهما وأولويتهما، وهي ما تمثل تحولاً فعلياً في العلاقات الخليجية الأمريكية، وهما يحضران لشرق أوسط مختلف، وأن ميزان القوى يتغير بشكل عام.
تسببت الحرب على أوكرانيا وضرب الحوثيين منشآت النفط لشركة أرامكو في جدة في رفع الأسعار، التي أعلنت بعدها المملكة العربية السعودية أنها لن تلتزم بإمدادات الطاقة إذا لم يقم المجتمع الدولي بلجم هذه الهجمات، بعدما قاومت المملكة الضغوط الغربية لزيادة إنتاج النفط بهدف كبح الأسعار، حيث ارتفعت نسب التضخم في أمريكا وهي الأعلى منذ أربعة عقود، وفي بريطانيا الأعلى منذ ثلاثة عقود.
ولكن في أوروبا لماذا لا تتخلى عن 60 في المائة من الضرائب المفروضة على النفط لخفض الأسعار، فهي أنانية غربية اعتادت هذه الدول على ممارستها، لكنها لن تتناسب مع الجغرافيا السياسية الجديدة، والسعودية طرف فيها، خصوصاً وأن السعودية لم تعد مستعدة للاعتماد على الولايات المتحدة كضامن نهائي للأمن، التي اتجهت نحو تنويع خياراتها الدبلوماسية وأدواتها الاستراتيجية منها تصنيع على الأقل 50 في المائة من إجمالي مشترياتها العسكرية.
شكلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي فريق عمل بهدف الحد من اعتماد أوربا على واردات الطاقة الروسية في مواجهة التدخل العسكري في أوكرانيا، ولكن الخطوة لن تكون فقط في معاقبة روسيا بعد رفض السعودية ضخ المزيد من النفط في السوق، بل هي خطوة لمعاقبة الأوربيين أنفسهم كمن يرمي الرصاص على رجليه، بسبب أن روسيا تزود القارة العجوز بنحو 150 مليار متر مكعب من الغاز كل عام، أي نحو 40 في المائة من الغاز المستهلك في الاتحاد الأوربي.
لم تتمكن إدارة بايدن من المساعدة في إمداد أوربا سوى بـ15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال فقط، لم يتبقى أمام أوربا سوى اللجوء إلى الفحم الحجري، لكن المشكلة أن أوربا أيضا تستورد الفحم الحجري من روسيا فهي في ورطة، وكل المحاولات المستقبلية يمكن أن تحل محل ثلث الواردات من الغاز الروسي فقط.
أي إنها لا زالت موسكو تحاصرها من كل جانب، ولم يتمكن بايدن من إنقاذ أوربا أو مساعدتها في تلك الأزمة سوى الرضوخ في النهاية لموسكو وتحقيق مطالبها بتحييد أوكرانيا، ولن يقبل الاتحاد الأوربي بضمها إلى الناتو.
لم نستمع في هذه الأزمة للحديث عن الاستثمار في الطاقة المتجددة التي كانوا يتحدثون عنها قبل الأزمة من تحويل الاستثمارات من الطاقة الأحفورية إلى الطاقة المتجددة.
أصبحت السعودية وروسيا اليوم ومستقبلاً حتى منتصف القرن الحالي مركز الطاقة في العالم، ولا يمكن تجاهلهما في أي قرار مستقبلي، وأصبح الحديث عن استقلال الطاقة مجرد أوهام حتى الآن ولفترة مقبلة، خصوصاً وأن هناك دولاً منتجة كثيرة بدأ ينضب فيها النفط، وتوقف الاستثمارات في اكتشافات جديدة وبشكل خاص في النفط، يضاف إليها الأزمات الجيوسياسية، والمناخية، فمثلا أنبوبان من أصل ثلاثة أنابيب تضخ الطاقة من بحر قزوين إلى أوروبا تعطلت بسبب الأحوال المناخية والأعاصير التي ضربت المنطقة، فأصبحت المشكلة مركبة، خصوصاً وأن السعودية بعد ضربات الحوثي على منشآت أرامكو أعلنت أنها غير مسؤولة عن أمن إمدادات الطاقة، ما يفرض على المجتمع الدولي تحقيق المطالب السعودية وكبح جماح التهديدات الحوثية.
أبقت السعودية وروسيا على استراتيجيتها في 31/3/2022 المتمثلة في الزيادة الطفيفة في إنتاج النفط بمقدار 432 ألف برميل يومياً، ويعتبر تحالف أوبك الوكالة الدولية للطاقة واحداً من ستة مصادر خارجية لتقييم إنتاج الأعضاء، لأن تحالف أوبك بلس الذي أنشئ عام 2016 بهدف تنظيم السوق يرى أن التقلب الحالي في الأسعار ليس بسبب الأساسيات، لكنه يعود إلى التطورات الجيوسياسية المستمرة، وضخ أمريكا مليون برميل يومياً من الاحتياطيات الاستراتيجية وكما ذكر ستيفن إنيس الشريك المدير في إس بي آي أسيت ماندجمنت يعتبر هذا السحب كمن وضع كمادة على ساق مكسورة، أي أن الحرب الأوكرانية أثبتت أن الطاقة وليست التكنولوجيا هي محركة التاريخ.