د. تنيضب الفايدي
يقصد بالمعهد في هذا العنوان الموضع الذي كنت عهدته، أو عهدت هوى لك، أو كنت تعهد به شيئاً، والجمع المعاهد، وقد عبّر كثير من الشعراء قديماً عن حبهم لمكة المشرفة وبالذات عن أماكن (معاهد) محددة، وأفرغ أولئك الشعراء أشواقهم شعراً يذوب رقة وحباً، وكأن كلمات ذلك الشعر قد صِيغت من ذهب، وفيما يلي نفثات من أشواقهم ووجدانهم:
يقول الشاعر وقد تبث الخيف فيه الأشواق للعودة إليها مرة أخرى.
يا زمان الخيف هل من عودة
يسمح الدهر بها من بعد ضن
أرضينا بثنيات اللوى
عن زرود يا لها صفقة غبن
سل أراك الجزع هل مرت به
مزنة روت ثراه غير جفنى
وأحاديث الغضا هل علمت
أنها تملك قلبي قبل أذني
ويتكرر خيف منى على لسان الشاعر المحب:
يا رفيقى اهدياني دارهم
ودعاني ودعاني وثراها
انا مقتول بسهم غرب
قوسه خيف منى أو ما زماها
حرم الصيد على من حجه
فانظرا إلى مهجتي من قد رماها
اكتبا في لوح قبري عشتما
مهجة ماتت وما نالت مناها
ويذكر الشاعر: المحصب، والخيف، ومنى ، وجمع وكلّها بمكة المكرمة.
كم بالمحصب من عليل
هوى طريح لا يعلل
وقتيل بين بين خيف
مني وجمع ليس يعقل
وترد ذات عرق وعرفات كثيراً في الشعر:
لبس البياض بذات عرق معشر
ولبست من حزن ثياب حداد
وصلوا إلى عرفات يبغون الرضا
وبقيت منكسرا ببطن الوادي
رفعوا أكفهم وضجوا بالدعا
وضممت من كمد يدى بفؤادي
وينوح الشاعر ببعده عن المنى والخيف والنقى:
سل بقلبي عن خيام باللوى
تاه قلبي في حماها ضل عقلي
ذات طوق مثل شجوى شجوها
غير أن ما شكلها في الحزن شكلي
أنا في النوح اضطراراً مثلها
وهي في غير اضطرار فيه مثلي
حرم الله على البان الصبا
وحماه الغيث من طل ووبل
ما على السائق لو حل النقى
وأراح العيس من شد وحل
فعسى تدني المنى مني منى
ولعلي أن أرى الخيف لعلى
ويكرر الشاعر الخيف:
يا صاحبي أطيلا موانستي
وناشداني بخلاني وعشاقي
وحدثاني حديث الخيف أن له
روحا لقلبي وتسهيلا لاخلاقي
ما ضر ريح الصبا لو ناسمت حرقي
واستنقذت مهجتي من أسر أشواقي
والشاعر: يصف خيف منى بأنه قطعة من فؤاده، وقد هيجت أشجانه حمامتان من بطن جبل نعمان:
وقولوا لجيراني على الخيف من مني
تراكم من استبدلتم بجواريا
ومن ورد الماء الذي كنت واردا
به ورعى العشب الذي كنت راعيا
فوا لهفي كم لي على الخيف شهقة
تذوب عليها قطعة من فؤاديا
وذكر الشاعر الأحوص: بعض المواقع في الوطن منها الشُبَيْكَة وأُحُدٍ، وسَنَام، ذات عِرْق، وذات فلج:
أَأَنْ نادى هديلاً، ذات فلْجٍ
مع الإشراقِ، في فننٍ، حمامُ
ظَلِلْتَ كأنَّ دمعكَ دُرُّ سِلْكٍ
هوى نَسَقاً وأسلمه النظامُ
تموتُ تشوقاً طَرَباً وتحيا
وأنت جوٍ بدائكَ مُسْتَهامُ
أحلُّ النَّعْفَ من أُحُدٍ، وأدْنى
مساكنها الشُّبَيْكَةُ أو سنامُ
ألا يا نخلةٌ من ذاتِ عرقٍ
عليك ورحمةُ الله السلامُ
وذكريات بعض حارات مكة المكرمة مثل الحجون والصفا حيث تثير شجن الشاعر عمرو بن مضاض الجرهمي:
كأنْ لم يكُنْ بين الحُجون إلى الصَّفا
أنيسٌ ولمْ يسمُرْ بمكة سامرُ
بلى نحن كنّا أهلها فأزالنا
صروف الليالي والجدودُ العواثر
ويذكر الشاعر بشر بن أبي حازم سوق ذي مجاز:
فإنّ مُقامَنا، ندعو عليكم
بأبطح ذي المجاز، له أثام
واشتهرت جبال مكة المكرمة ومنها جبل حراء، وجبل ثور، والأخشبان: قال الشريف الرضي:
أحبك ما أقام منيً وجمعُ
وما أرسى بمكة أخشباها
وما نحروا بخيف منى وكُبُّوا
على الأذقان مشعرةً ذُراها
والأخشبان جبلان متقابلان جبل أبي قبيس ويشرف على المسجد الحرام من الشرق، وجبل قينقاع كما يطلق اسم الأخشبين أيضاً على الجبلين المتقابلين بمنى.
وسوق ذي مجاز في ديار هذيل بالقرب من مكة المكرمة وهو على الأرجح بالقرب من عرفات إن لم يكن جزءاً منها:
قال أبو ذؤيب الهذلي:
وراح بها من ذي المجاز عشية
يبادر أولى السابقات إلى الجبل