صبار عابر العنزي
الدحة عرضة تراثية شمالية لها مكانتها في صدور أبناء البادية لأنهم يرونها أهزوجة الحرب والسلام لا الاستسلام، فهي عرضة للرجال يمتزج خلالها صوت الأسود وهدير الإبل في المواقف الجسام فتُمارس قبل الحرب لإثارة الحماسة بين أفراد القبيلة، وعند نهاية المعارك احتفالا بالنصر وتمجيدا لدور الفرسان ويأتي هنا دور الشاعر ليبث الحماس في رؤوس الرجال لمواجهة الأعداء بكل قوة..
وهناك دور تاريخي ومزج طبيعي بين الرجال وشقائقهم من حرائر العرب فهن سند وعضد ومع رجال ينظرون لهن بعين الإجلال والتقدير, فالرجل أمام أعين النساء وخصوصا محرماته يكون أقدر وأحرص على التضحية وهل هناك تضحية أعمق وأقوى من تقديم النفس من أجل تسجيل موقف شرف يبقيه في ذاكرة وجدان الأمة..
الشعراء بعد الانتصار قديما «يصفون» المعركة وما دار بها من بطولات وأفعال ويمجدون الفرسان أما الآن فهي تمارس في المناسبات الوطنية والاجتماعية ويفخر أبناء وأحفاد الجزيرة العربية لأنهم يربطون بين نشأتها ومعركة ذي قار التي انتصر العرب فيها على الفرس..
والدحة عبارة عن شاعر أو شاعرين يقفان وخلفهم صف كبير من «الرواديد» الذين يردون بعد الشاعر (هلا وهلا به يا هلا) والشاعر يمجد ربعه وإذا كانا شاعرين فكل شاعر يذكر أمجاد قومه وتكون أحد النساء واقفة أمام الصفوف بحدود 8 أمتار وأخوها أو أبوها واقف بجنبها وإذا بدأ الشعر تجلس الحاشي ويبدأ الصراع بين الشاعرين على تقديم ما لديهم من قصائد فإذا ارتأت الحاشي وأخوها قوة شاعر على آخر تقوم وترفع السيف وتحوشي, وللحاشي لكونها أنثى متسترة بثوبها وعباءتها حق في ضرب من يدخل الميدان الخاص بها للاستعراض بالسيف ولا يترتب عليها أي مسألة حتى لو قتلت المقابل في حالة الاقتراب منها..
والحقيقة أن هذه الأهزوجة الحربية قد تعرضت للتشويه والتغيير كما يقول الزميل ناصر الحجيلان خلال العقدين السابقين لم تعد كما كانت تمارس على مدى مئات السنين فمن المعروف أن وجود ما يسمى بالحاشي هو جزء أساسي لا تكتمل بدونه وكانت العرب في التاريخ يعبرون عن نصرهم على الأعداء بذبح حاشي وهو ابن الناقة الصغير ويبدأ الرجال يجتمعون حول الحاشي المراد ذبحه ويبدؤون بإصدار أصوات الوحوش لإفزاعه ثم يتقدم أحدهم بعد أن يأخذ التعب مأخذه من الحاشي ويبدأ بنحره بالسيف وقد أخذت المرأة دور الحاشي لإثبات قوتها وصلابتها وتحديها للمخاطر، وقد كانت غالباً من اللواتي يتمتعن بشخصيه قوية ودور قيادي عند العرب وقد سميت بحاشي..
وقد تجرح أو لربما تقتل من يحاول مبارزتها من الفرسان والذي يحاول بمهارته الفائقة النجاة من هذا المصير وغالباً ما تنتهي المبارزة بتفوق المرأة، ومما يدلل على قوة المرأة الحاشي وصلابتها ما حصل للشاعر مشعان بن زبدان الصقري حينما قام أحد شباب القبائل بتحريض ابنة الشيخ على قتله أثناء الدحة لأنه كان شاعراً موهوباً وتعشقه الفتيات لذلك أراد الشباب أن يتخلصوا منه غيرة وحسداً وحينما أحس باقتراب نهايته قال مخاطبا الحاشي واسمها ذبحه:
إن ذبحتيني يا ذبحه
غريب ولا حدن باكيني
وأن خليتيني يا ذبحه
أمي عجوز وترجيني
فتأثرت ورمت السيف من يدها وخرجت من الملعبة, وأخيرًا يقول المؤرخ عبدالله العبار على لحن الدحة من ضمن قصيدة طويلة هذه الأبيات:
الدحة مبطي دحتنا
عادت اهلنا وعادتنا
هي الموروث لعزوتنا
أصحاب العقل المياله
والدحة سلم القرايب
يلعبه الصبي والشايب
وإن حضر وقت الحرايب
الفزعة هجن وخياله