عبد العزيز الصقعبي
إلى:..
أنت أيها الرجل القدير الذي أحترمه وأخافه، والذي يجلس محاطاً بكراتين وأكياس في محل صغير بشارع شبه مهجور، لا أدري ماذا تبيع، حتى الآن على الرغم من مرور سنوات طويلة على آخر مرة رأيتك بها في دكانك الصغير في ذلك الشارع الضيق الذي يؤدي إلى وسط السوق، لكنه لا يعد مطلقاً من المناطق التجارية، فلا يوجد إلا دكانك الصغير، ومن يرغب التوجه لوسط السوق عليه أن يبتعد قليلاً عن مكانك.
ربما أقول موقع محلك الصغير خطأ، ربما أنت أو أبناؤك قرروا أن يقتطعوا من غرفة في الدور الأرضي مساحة ليجعلوها محلاً تجارياً لتجلس فيه بين أرفف خشبية، بها كراتين وأكياس، ربما بها أرز أو قمح، وبعض الأقمشة التي جعلتها أمامك، مع وجود مساحة صغيرة لجلوسك ومن يرغب بالجلوس عندك، على الرغم من أن محلك صغير جداً بالكاد يحتمل جسدك الصغير والهزيل، لم أر أي إنسان يجلس عندك أثناء مروري أمام محلك متجهاً للسوق، وأنت جالس تراقب الجميع.
فعلاً لا أدري ماذا تبيع، ولست متأكداً من أن بتلك الأكياس أرزا أو قمحا، وأستغرب من وجود تلك الكراتين التي بكل تأكيد بها أشياء ربما متاحة للبيع، ربما هي أشياء مخصصة للكبار ولا تصلح لطفل صغير كان قدره أن يكون طريقة يمر بمحل ذلك الرجل الذي يجلس ويراقب الناس وهو صامت.
صدقني ليس لدي شيء أضيفه للحديث عنك، ووقتها ليست لدي الجرأة أن أقف وأتوجه إليك، بالطبع أسلم أولاً ثم أسألك عن أي شيء، ليكن حلوى أو مشروباً غازياً، ستقول «لا يوجد»، وسأسمع صوتك، وربما سأسألك ماذا لديك، عندها، ستقول لي، لدي كذا وكذا، وعندها ينتهي الأمر وأعرف ماذا تبيع أو لماذا هذا المحل الوحيد في هذا الطريق.
شيء مهم لم أذكره، وأنت ستستغرب لو قرأت ما أكتبه الآن عدم تطرقي له، ذلك المجلد الأسود الكبير الذي تضعه أمامك، أنت تقرأ دائماً، وتراقب الطريق أحياناً، توقعت أن ذلك المجلد نسخة قديمة من القرآن الكريم، ولكن حينما اقتربت ذات يوم لمدخل محلك تأكد لي أن ما تقرأه كتاب قديم، لاحظت أن به متنا وهوامش، هي واضحة لمن يقف أمامك لينظر لما يحتويه محلك أو كأنه يبحث عن شيء مثلي، لم تبادر وقتها لتقول لي «أي خدمة» وعفواً هذه الصيغة لا تصلح لطفل يقف أمام محل به رجل كبير، ربما تقول مباشرة «ماذا تريد»، لكنك لم تفعل ذلك كنت منكباً على قراءة ذلك الكتاب الكبير ذي الجلدة السوداء والأوراق القريبة من الصفار، كتاب قديم، أيقنت ذلك، ليس من المخطوطات، بل مطبوع، تخفض رأسك قليلا لتقرأ، ثم ترفع رأسك لتراقب من يمر أمام محلك، ولحسن حظك، الشارع الذي عليه محلك شبه منسي، قليل من يمر به متجها لوسط السوق، أنا أحببت هذا الطريق لأنه يختصر المسافة بين بيتنا ووسط السوق.
ما دمت تحب القراءة، لماذا لم تجعل محلك مكتبة، بها كتب مختلفة، ربما ستجد من يأتي ويشتري بعض الكتب منك، وربما سأبحث في مكتبتك عن بعض قصص الأطفال واليافعين، ماذا يوجد داخل تلك الأكياس والكراتين، هل هي مجرد شكل، أو بما نتعارف عليه في مجال المسرح، «ديكور»، ليوحي أنه محل، هل تعرف ما بداخل تلك الكراتين، أم أبناؤك وضعوها ليغطوا تلك الأرفف التي وضعت على الجدار من ثلاث جهات، ليكون فعلا محلا، ولماذا تلك الأقمشة، وأيضاً لماذا تلك الأكياس، فوضى غريبة، هل أردتها أنت أم أبناؤك، حتى الآن لم أذكر كم عمرك، أنت لست شاباً في مقتبل العمر، بل كهل في خريف العمر، عذراً إذا كانت تلك الكلمة غير مهذبة، ولكن هذا الواقع، وهذا الذي يجعلني، لا أقدر على التواصل معك عندما أمر أمام محلك، فأنت وقتها كنت بعمر جدي، ولكن تجلس وحيداً تقرأ من كتاب كبير غريب، وتراقب من يمر أمام محلك في الوقت ذاته، دون أن تبيع أو تتحدث مع أحد.
لا أدري كم سنة بقيت على تلك الحال، ولا أدري هل أكملت قراءة ذلك الكتاب متنه مع هوامشه، وهل علقت عليه، أنا لم أرك مطلقاً تحمل قلماً وتكتب، بالطبع مروري أمام محلك لا يتجاوز الدقيقة بل أحيانا أقل بكثير جداً، ولكن غالباً أمشي ببطء جداً عندما أمر من أمامك، ومن يلحظني يشك بأني واقف لا أتحرك، وأن أتأمل يومياً ما بداخل محلك وأيضاً أرصد ملامحك التي لا تتغير ولا تفزع من ذلك الطفل الذي يتأملك، بل كأنه لا يوجد أحد، هل هذا ثقة بنفسك أم أنك لا تعي ما بحولك، أو أن تجربتك الحياتية تجعلك لا تنزعج من فضول الصغار، عموماً أنت إنسان مختلف، أردت أن تكون آخر أيامك في محل صغير لا تبيع شيئاً وتقرأ وتتأمل الناس الذين يمرون أمامك، ربما بقيت صورتي بذهنك فترة من الزمن، ربما ستتساءل، أين ذهب ذلك الصبي الفضولي، الذي يريد أن يعرف ما بداخل المحل وما هو الكتاب الذي أقرأه، ربما، بكل تأكيد لن تصل إلى أجوبة لأسئلتك تلك، مثلي، لا أعرف ماذا حل بك، وبمحلك وبما في داخله وتحديداً ذلك الكتاب الكبير ذو الجلد الأسود بعد أن انتقلت إلى الرفيق الأعلى، أعتقد أن ثمة حكاية لم أتمكن من معرفة بدايتها بعد.